هناك مقولة شائعة معتمَدة حول التاريخ، ولو جرى التستّر عليها أو عدم أخذها على محمل الجدّ: “للتاريخ دائماً قصّتان: القصّة الرسمية الملفّقة، ثم القصّة السرّية حول الأسباب الحقيقية للأحداث”. فالمؤرّخون يطمحون إلى كتابة التاريخ النهائي، بينما الكثير من الحوادث الشهيرة بدأت بإشاعة في زمانها، بهدف التغطية على الحادثة الحقيقية، أو نسفها كلية، أو التلاعب بها، ثم جرى ترشيدها بأقاويل مفبركة وشهود عيان لم يكونوا شهودًا عليها، فترويجها بين الناس. وقد يُبنى عليها، فتصبح مرجعية في موضوعها، بأوامر، أو تعليمات من سلطات على أعلى المستويات، فيُعمَد إلى تسجيلها في الحوليات واليوميات والمذكّرات. وفي منطقتنا، يجرى تدريسها والاستشهاد بها في المدارس والجامعات.

استطاع باحثون وصحافيون من كتّاب الصرعات النيلَ من التاريخ المعاصر باعتماد الخطّة نفسها، تبدأ بإشاعة، ثم بدعمها بأقاويل ومستندات غامضة، فنشرها في الجرائد، ثم تُطلَق في القنوات الفضائية من أجل تعميمها، وفي مواقع التواصل، وليس مستبعداً إصدارُها في كتب، وتصبح مدار مناقشات أكاديمية. فالعصر الحديث سهّل نشر الحقائق ونشر الأكاذيب معًا.

في مثال عمّا يروّج بين فترة وأخرى أن شكسبير شخصية خيالية، أو أنه لم يكتب مسرحياته وإنما الذي كتبها هو الفيلسوف فرانسيس بيكون، لم يشأ الظهور ككاتب مسرحي للعامة، أو كتبها شعراء مغمورون أرادوا انتقاد وليام سيسل، مستشار الملكة إليزابيث الأولى، فابتدعوا شخصية وهمية حتى يتجنبوا الاعتقال، وغيرها كثير. نفيُ هذه التلفيقات لم يمنع تناول ما يشاع عن شكسبير بأفلام سينمائية على أنه الحقيقية المجهولة، مع أن حياته لم تعد مجهولة، بل معروفة بدقائقها.

في التاريخ قطبة مخفيّة، وربما القماشة كلّها محجوبة عنّا

كذلك موليير، صاحب “البخيل” و”طرطوف” و”المريض بالوهم”… والادّعاء بأن شهرته قامت على أسطورة جرى تسويقها، بينما هي من تأليف بيير كورني صاحب المسرحية الشهيرة، “السيّد”، بذريعة أن “كورني العظيم” لم يكتب هذه المسرحيات الكوميدية، بينما مسرحياته مكتوبة حسب القواعد التراجيدية الصارمة. ما يبطل هذا الزعم هو أن كورني كتب مسرحيات كوميدية أيضًا: “الكاذب” و”ما يلي الكاذب” و”دون سانش داراغون”، وليس بحاجة ليؤجّر موهبته ولو كانت عائلته كبيرة. كما أن موقعه لدى مؤرّخي الدراما الفرنسية هو أنه مهّد الطريق أمام موليير.

لم يقتصر التشكيك في التاريخ على الأدب والأدباء، بل طاول أحداثًا تاريخية متداولة. فقد عُرف عن راسبوتين أنه مدمن على الكحول، وفاسق ولصّ، وعديم الأخلاق. لكن ما ثبت هو أن راسبوتين أدمن على الكحول في أواخر حياته. أما عن لصوصيته، فقد كان يوزّع إلى الفقراء والمحتاجين الهدايا التي تُقدَّم إليه. تعود الصورة المشوّهة عنه إلى تفاصيل حياته التي وصلت عن طريق يوسوبوف الذي اغتاله، والذي قال عنه عندما أجهز عليه: “لقد قتلت قدّيساً”.

كذلك استيلاء الثوار الفرنسيين على سجن الباستيل يوم 14 تموز/يوليو 1789، فالرواية الرسمية تذكر أن مدافع الأبراج استمرّت بالقصف ساعات طويلة ضدّ المهاجمين، الذين لم يتراجعوا إلى أن سقط الباستيل وتمّ تحرير السجناء، وحُملوا كمنتصرين على الأكتاف وجالوا بهم شوارع باريس. غير أن مؤرّخين قبل سنوات أكّدوا أن مدافع الباستيل لم تطلق النيران باستثناء مدفع واحد.

هل بوسعنا القول: ليس التاريخ كما نعرفه؟ في عصرنا الحاضر الذي نعيشه وتمرّ أحداثه بمتناول أبصارنا، ويخاطب سياسيّوه أسماعنا، لا يشذّ عنه تاريخٌ مضى منذ قرن أو عشرات القرون. فالحرب على العراق، مهما ابتُدع لها من أسباب، كانتزاع أسلحة الدمار الشامل، فالحقيقة كانت تدمير العراق؛ القصّة المخفية، التي فضحها الباحثون. ومثلها الحرب في سورية، لم تكن منذ البداية ضد الإرهاب ولا في النهاية أو ما قبل النهاية؛ القصّة المخفية إقليمية ودولية، كانت نتائجها تدمير سورية.

في التاريخ قطبة مخفيّة، وأحياناً أكثر من قطبة، وربما القماشة كلّها محجوبة عنّا، تحت غطاء قماشة لا تمتّ للأصل بصِلة. لكن يجب عدم المبالغة في دحض التاريخ؛ إنّ اقتلاعه يعني تأسيس غيره. ترى ما الحقائق التي نملكها أو نطمئنّ إليها، هل هي كافية لصنع تاريخ آخر؟ ليس الأمر الكشف عن الأخطاء فقط؛ هناك ما يتعدّاها. يجب الانتصار للحقيقة؛ هذا ما يعنيه التاريخ. إنه محاولات البشر للمعرفة، وإلّا ماذا تعني العدالة والحرّية والجمال والقانون؟ من دونه ودونها، ما أكثر الأشياء التي ستصبح بلا معنى…