لم تدم ثورة الطلبة أكثر من سبعة أسابيع من ربيع 1968، حتى سيطرت أصداؤها على العالم، وأخذت وسائل الإعلام تلهث وراءها، مع توقف حركة الاقتصاد الفرنسي جرّاء المظاهرات والاعتصامات في الجامعات والمصانع، ما أوصل الاحتجاجات إلى ذروة، أثارت الخوف من حرب أهلية، أو ثورة عامة؛ بلغ من تأثيرها أنها حرضت الطلبة والعمال على التظاهر في بلدان القارة الأوروبية.

بدأت الحركة بسلسلة إضرابات طلابية. لم تكن مستغربة، بدت كإحدى القلاقل المحدودة التي لا يخلو منها عالم مضطرب في مناخ ثوري عمّ العالم، فالمقاومة الفيتنامية ضد الأميركان كانت آخذة بالتصاعد، والمقاومة الفلسطينية في بداياتها، بينما كان ماو تسي تونغ يقود الثورة الثقافية الصينية، مع انتفاضة اليسار ضد تحجّر الصيغة السوفييتية للتحوّل إلى الاشتراكية، وما أسهم في تأجّجها، أنها بدت رداً على اغتيال أميركا لتشي غيفارا رمز الثورة العالمية في بوليفيا.

كان على رأس المظاهرات، وعلى المتاريس طلاب اشتراكيون ويساريون، الشيوعيون يرتدون عصابات حمراء، والفوضويون يرتدون عصابات سوداء، وشكل الأناركيون، والتروتسكيون جزءًا مهمًا من الحراك، ولم يغب شباب الشيوعيين التقليديين من أعضاء “الحزب الشيوعي الفرنسي”.

صدحت في سماء فرنسا أغاني الحياة الجميلة والحب بين البشر، وتوحّدت على الجدران الملصقات الثورية، والرسومات عن عالم طليق، حملت نبض الروح السيريالية، واستعادت شعارات رفعتها الثورة الفرنسية بعد تعديلها بحيث تناسب العصر: “لن تعرف الإنسانية السعادة، إلا في اليوم الذي يتم فيه شنق آخر بيروقراطي بأمعاء آخر رأسمالي”.

بدا أن عالماً جديداً على وشك البزوغ لكنه سرعان ما اختفى

نشدت الثورة إقامة عالم خالٍ من الاستلاب الرأسمالي، ومَثَّلت احتجاجًا ضد الرأسمالية والمؤسسات التقليدية والنزعة الاستهلاكية والسلطة الأبوية والحزب الشيوعي والبيروقراطية الحزبية، والمديرين والنقابيين، ومجتمع أفرغته السلع من القيمة وأماتت حيويته، وكأنها ضد كل شيء. كانت بلاغة الثورة في التعبير عن طموحاتها بشعار: “لنغير الحياة”.

ركب المثقفون قطار الثورة بعد انطلاقه، كان من أبرزهم في ذلك الوقت الفيلسوف جان بول سارتر وميشيل فوكو والسينمائي جان لوك غودار. وبدأت الثورة تتفلسف، فأصبحت المنظومة الاجتماعية كلها موضع النقد العنيف، وطالبوا بتهديم أسس المفاهيم السائدة عن الدولة والأمة والأسرة والمدرسة والجيش والكنيسة. وكال لويس ألتوسير المديح للماركسية، ورفع جاك ديريدا شعار التفكيكية كفلسفة للحياة، وأقرّ رولان بارت بأن اللغة فاشية، ومجّد ميشيل فوكو وجيل ديلوز “الجنون”. واكتمل التفلسف بشعار “ممنوع المنع”، وصار بوسع كل فيلسوف أو مفكّر فرد أو جماعة الزعم بأنهم يمتلكون الحقيقة. بدا وكأن عالماً جديداً ونظيفاً على وشك البزوغ.

انتهت ثورة 68 بطريقة غير متوقعة، بعد هذا الزخم المتصاعد. فجأة اقتصرت مطالبها الجذرية على بعض الزيادات في الأجور والإصلاحات الإدارية. ما فتح باب النقاش حول القدرة الفائقة للرأسمالية على استيعاب الانتقادات ضدها، بحيث تنقلب لصالحها. وتحوّل الثوريون إلى مرتدّين، أو إلى ضيوف دائمين في وسائل الإعلام، ولم تعد الثورة أكثر من حلم جميل عبثي، انطلق بشكل عفوي، نضج بالمصادفة وتبدّد بالمصادفة. رغم ما احتوته من شخصيات ثورية كارزمية، وآراء راديكالية معادية للإمبرياليتين الأميركية والسوفييتية.

أراد طلبة عام 1968 قلب العالم رأساً على عقب، إن لم يكن تغييره، لكنها ستبدو طبقاً لنهايتها الدرامية، وكأنها ثورة المرفهين، خليط من تمرّد وفلسفة ويسار وفوضوية وسريالية… تريد كل شيء، وإذا كان ما ظفرت به أقل من القليل، مما طمحت إليه، فقد استطاعت التأثير في عالم أصبح أكثر حرية وتحرّراً.

بالمقارنة مع الشعوب العربية التي ثارت، لسبب لا محيد عنه؛ العيش لم يعد ممكناً، ما طالبوا به، ولو كان بالحد الأدنى، أكبر من أن يتحقق، مع أن الدكتاتوريات السادرة في النهب، كانت غير قادرة على تأمين أبسط وسائل العيش، فلم تعد الحرية والكرامة، أكثر من عوامل بطر في حياة يصنعها الطغيان.