هل يموت الكتاب بموت القارئ؟ ماذا عن موت المؤلف؟ هل للكتاب عمر تحدّده الظروف؟ في الحقيقة، للكتاب حياة قصيرة مهما امتدّت، فإلى انتهاء، حتى الكتب المقدسة التي لا عمر لها تخضع لنوبات من الإيمان والإلحاد.

تحيلنا هذه التساؤلات إلى تداعيات تحمل أكثر من معنى وقصد، عبّر عن جزء منها الروائي الأميركي فيليب روث، للناقد المعروف هارولد بلوم، قائلاً له، إنه يخشى أن ينقرض قرّاؤه المُسنّون بالموت دون أن يحل محلهم قرّاء جدد.

وكأن الكاتب يكتب لقرّاء معيّنين، وبموتهم يموت كتابه، أو يموت الكتاب مع موت صاحبه، أي في حال لم يحل محل قرّائه المسنّين قرّاء جدد، فالكتاب واتاه الموت، أي أن للكتاب عمراً واحداً، قصيراً أو طويلاً، ولا ضمانة ليمتد عمره إلى الأجيال القادمة. هذا إذا اعتبرنا، أن لدى الكاتب قرّاء يتابعونه.

من هذه الناحية، يعتبر الكاتب كاتباً في زمان معيّن لا يتجاوزه إلى غيره، تجاريه ذائقة قارئ معيّن، قارئ حصري، لديه ذائقة لا تعني القارئ القادم من زمان آخر، ما يشمل أيضاً القارئ من بلد آخر مختلف، يعيش ظروفاً مختلفة. أضف إلى ذلك، ألّا يغيب عن بالنا، أن الكتاب يصنع ذائقة، سلطتها معدومة في المستقبل. عموماً هذا ما يصيب الغالبية العظمى والساحقة من الكتب، والأمر لا يتعلّق بالحظ، ولو ساعده، أو انخدع النقاد به بضع سنوات، بعض الكتب يصيبها سوء الحظ وتختفي، ثم يواتيها الحظ فتنفض عنها غبار الزمن، وتعود إلى الحياة. مثلما حدث مع رواية “موبي ديك” لهرمان ملفل، التي لم يُعنَ بها النقاد في زمانها، ثم اعتبرت واحدة من أعظم الروايات في العالم.

يصنع الكتاب ذائقة سُلطتها معدومة في المستقبل

ينشد الكاتب المحافظة على قرّائه وتوسيع دائرة المعجبين به. ويطمح إلى أن يُقرأ لآماد طويلة، ويضع الشهرة في حسبانه، وربما الخلود أيضاً. بوسعه الحصول على الشهرة، سواء كانت مكافأة على عمله، أو السطو عليها بأساليب مصطنعة، فالدعاية قادرة على الترويج لبضاعة عادية، أي ثمة طرائق تجعله يظفر بها.

بعض الكتّاب أدركوا هذا “الكود”، فأسبغوا الأهمية على ما يكتبونه، وبعضهم لاحقوا الموضوعات المثيرة، وعالجوها بتسرّع، عوّضت المبالغة عن سطحيتها، وقد لا يعيبهم هذا الاختلاق، إلا إذا لجأوا إلى التدليس والانتهازية، وتوسّلوا العلاقات الشخصية لتصنيع شهرتهم، وهي علاقات تُشترى، بأساليب أقرب إلى الاحتيال، من فرط انتشارها، لم تعد مستهجنة كثيراً في عصرنا، بل ومنهم من تبلغ به الشطارة، ألا يستطيع انتزاع مكانة في الوسط الثقافي إلا بالإساءة إلى غيره، مفترضاً أن الآخرين عقبة في وجهه.

طموحات الأدباء بلا حدود، ولا غنى عن التمنّيات، والأمل بتحقيقها، ولو كان الخلود. طالما أن خلود كتابه، سيمنح الكاتب الخلود لشخصه، ولا غرابة في سعيه إليه، طالما أنه لا يقتصر على الزعماء والقادة، بينما المفكرون والأدباء أولى بها، يسهل احتلال حصن أو مدينة، وليس من العسير تدمير معابد وذبح مرتدين. أما الصعوبة التي تعادل الاستحالة، فتغيير نظرة البشر نحو ما استقروا عليه، والاستعاضة عن متعة الإبادة والاحتلال، ببهجة المعرفة، ومتعة الجمال. إنها صناعة تعتمد النفس الطويل.

لكن لا غنى عن الواقعية إزاء الواقع، فالقناعة بأن الزمن سيطوينا ويطوي ما أنجزناه فضيلة، يعززها إدراكنا بأننا قدمنا ما علينا للعصر الذي عايشناه، وللقرّاء الذين رافقونا في الحياة، أما قصة الخلود، فأمرها ليس بيد أحد، ولا بيد القادمين من بعدنا، ولا بما أُضفي على الكثيرين من تكريم واستحسان واعتراف، وسوف تكون حظوظهم جيدة في حال دخلوا تاريخ الأدب، وأصبحوا جزءاً منه، لا ينبغي التقليل من هذا الاعتبار، فإذا كانوا قد أدوا ما عليهم، وأضافوا ما سيسهم في البناء عليه، وربما أصابوا في مشوارهم الأدبي قدراً من الشهرة والمال. أما الأهم فشأنه في المستقبل ليس القريب، وإنما البعيد، في العصور الأخرى، يتعرّضون خلالها للحضور وللغياب، فالخلود ليس خلوداً مطلقاً، إنه مقيد بالزمن، ويخضع للنسيان، ومثلما يأتي عصر ويحييّ الكاتب، تأتي عصور وتنساه.

لم نأت على ذكر الخلود، إلا بحكم انتشاره، فقد أصبح سمة عصر ديكتاتوري، يقيم التماثيل وكأنها لا تحطم ولا تلعن ولا تداس بالأقدام، هناك من أصابته عدوى الخلود، لا سيما أولئك الذين يكتبون اليوم، ما يتلاشى في غبار اليوم التالي. وقد يستحسن الاقتصار على الشهرة، وسواء حصل عليها بجهده أو بعلاقاته الشخصية، أو بالحط من أعمال غيره من الكتاب، أو بالاحتيال، فالمحط الأخير هو كتابه، والحكم عليه من دون هالة زائفة، الشهرة أقرب منالاً، نالها الكثير من المحتالين، لا سيما في عصر الصورة، بعدما أصبحت صناعة في زمن الميديا.