ليس عن تعمُّدٍ زجُّ الرواية في الثورات والحروب، بل عن اضطرار. إذ إنّ رُؤى الروائيِّين مطلوبة، بعدما أكّدت الرواية أهمّيتها باقتحام التاريخ. طالما أنّ المؤرِّخين مُقصّرون في الإحاطة بالنوازع الإنسانية في أزمنة الاضطرابات، ليس التوق إلى المعرفة، بقدر الفَهم والتبصُّر بمصائر البشر. إنّه موضوعُها الأثير، كما أنّ الحاجة الروائية إليها، ليست للتأريخ، ولا للتوثيق، أو العِبرة، وإنْ كانت تشكّل عبرة مُؤلمة. تَعنينا بالدرجة الأُولى، نحن البشر، المتورّطون فيها رغماً عنّا، ودافِعُو تكاليفها الباهظة، وعلى عاتقنا يقع ثقلُ أعبائها المريرة، من قتل وتشويه وفقدان.
فالمأساة في حقيقتها، أنّ إنساناً يتقاتل مع إنسان مثله في حرب عبثية، تصنعُها سلطاتٌ غاشمة وجشعة، أدواتُها الناس. ولا شرعية للسُّلطة التي أطلقتها، ما ينفي عنها الحقّ في فرضها، ولا تعدو سوى كونها مُغالاة في الطموح لترسيخ وجودها.
لا يتطفّل الروائي على عالَم متورّط فيه، إنه في داخله، مشاركٌ فيه، سواء بتدميره أو رفضه، أو الإسهام بتشييد آخر عوضاً عنه، أو إدخال تغييرات فيه… وإذا كان الروائيّون قد أعطَوا لأنفسهم الحقّ في التعبير عنه، فالخلاف بينهم لا يدور على الأرض، وإن انعكس عليها، بل يدور في رواياتهم، يتّضح في سرديات تأخذ جانب طرف دون طرف، أو في انحيازهم إلى ما يعتقدون أنه الحقيقة، لا سيّما أنّهم يضعون البشر في المقام الأول حسب مزاعمهم. ما يستدعي التساؤل: أي بشر؟ هل هي السلطة أم البشر العاديون؟ فالسرديات لا تتّفق على منحى واحد، ومثلما للثورة سرديّتُها، فللسُّلطة سرديّتُها.
إن كانت الثورة زلزالاً، فلماذا لم ينتهِ بعد هذه السنوات؟
وإذا اتّخذنا الحدث السوري نموذجاً، فلأنه يمنحُنا أكثر من دلالة، فهو الوحيد الذي أفرز مئات الروايات، خلاف البُلدان العربية الأُخرى كمصر وتونس وليبيا واليمن، رغم عناصر التشابُه القويّة. ففي شوارع خمس دول انطلقت مظاهراتٌ سِلْميّة، واحتجاجاتٌ شعبية واعتصامات، وكانت الثورات فيها على طريق الانتصار، لكنّها هُزمت جميعها. وفي كلّ دولة كان أسلوب سحْقِها يختلف عن غيرها، أمّا العنصر الوحيد المُشترك الذي لم يختلف، فكان هزيمتها تحت عنوان “القضاء على الإرهاب”، وهي الحجّة الشائعة التي يتقبّلها العالَم، ويصمتُ عنها، فلا غرابة في دعوته إلى وَأْدها، وعدم العمل على إنجاحها. ساندهم اختراع الإرهاب، والإسهام بصناعته، وفتح الأبواب له، وتحريضه على الفعل. وكان للقمع الوحشي للأنظمة، الفضلُ في إنجازه، والتسبُّب في تعالي أصوات الثأر والانتقام أيضاً، وارتكاب أفعال لا تقلّ عن الإرهاب.
لم يكن للمثال السُّوري إفراز هذه الكمّ الكبير من الروايات، إلّا لأنّ الكُتّاب في بلدان الاغتراب والمناطق المُحرّرة غير الواقعة تحت سلطة النظام، توفّر لهُم من الحرّية ما لم يتوفّر لغيرهم، رغم ما أصابهم من قَمْعٍ يفوق بمراحل بقيّة الدول، فالقسوة الهمَجية للنظام كانت استثنائية على الدوام.
انحيازٌ لا يعبّر عن ذاته إلّا في إيجاد الأعذار للطاغية
تُحيلنا أغلب السرديّات المنحازة إلى الثورة لأحداثٍ عانى منها أصحابُها، أو عرفوا بها، وتجارب شخصية لوقائع تعرّضوا لها. بالمقابل ظهرت سرديّات معاكسة، صحيح أنّها ليست بالحجم ولا العدد نفسه، كانت روايات متفرّقة، استثمرت في الضحايا، واستثنت النظام بإغفال الإشارة إليه، تتبدّى انتهازيّتُها، بتوسُّل نصف الحقيقة، على أنّها الحقيقة، بدعوى أنها سردية الحرب على الإرهاب، وما هي إلّا إيجاد الأعذار للطاغية. كما قامت بنفي وصف الثورة عن الثورة، بأنّها مظاهرات كانت سِلْمية بضعة أشهر لا تستحقّ الذِّكر، سرعان ما سيطر عليها الإرهاب الإسلامي، فالثورة ليست إلّا زلزال عابر، بعده عادت الأمور إلى مجراها الطبيعي، فإذا كانت زلزالاً، فلماذا لم ينتهِ حتى بعد عشر سنوات؟
رافقت هذه الروايات دعاية ترمي إلى تعميم هذا التوصيف، انطلى على الكثيرين على أنّه تعبير أدبي بريءٌ، من دون توجيه أي اتّهام للفاعل، مجرّد أخطاء ارتكبتها السُّلطة، اختُصرت بتجاوزات من الأجهزة الأمنية وأخطاء فردية. أمّا الثورة فقد انحرفت وأصبحت إرهاباً في إرهاب. لم تصمد سردية الزلزال، كانت مثل غيرها من الادعاءات الزائفة.
إنّ أية سردية لا يضير حيادُها، انحيازها للبشر، إذ هي انحيازٌ للإنسانية. ولن تكون في حال تبرير جرائم الطاغية، سوى سرديّة مُضلِّلة وباطلة.
-
المصدر :
- العربي الجديد