التجربة في الأدب مقدسة، بينما الأدب نفسه غير مقدس، يجوز العبث واللعب فيه بلا كثير موانع. أفضل النتائج التي حققها كتاب الرواية كانت في التخفف من قواعده، وأشد ما كانت جلية في رواية “يوليسيز” للايرلندي جيمس جويس. هذه الرواية حازت على شهرة واسعة جداً، قرأتها القلة، ونادراً ما استمتع بها أحد، لكنها أخلفت تجربة مهمة بإدراجها تيار اللاوعي في قائمة الأدوات الروائية، بات لا يستغنى عنه، وأصبح أغلب الكتاب مدينين لها. وفيما لو أغلق المجال أمام التجريب، فسوف تنحو الرواية إلى اجترار ماضيها.

المستقبل ما زال للرواية على الرغم من مسلسل الميتات المتتالية التي بشّر بها دعاة الحداثة ومابعد الحداثة: موت المؤلف، موت الشخصية، موت الرواية… تنبؤات لا يمكن أن تتحقق إلا بموت قارئ الكتب الذي يبدو أنه على رأس لائحة الموعودين القادمين بالموت، إن لم يكن قد لفظ انفاسه، أو أنه يتماوت بشكل بطيء.

الخطر الشائع الذي يتهدد الرواية، كما يقال، أن عصر السرعة لا يمنحنا الوقت للقراءة، خصوصاً الروايات الطويلة. هناك فرق شاسع بين متابع الفيسبوك والتويتر، وقارئ الرواية التقليدي، يُعتقد أن الغلبة للأول، وبهذا بات موت القارئ العنيد محتماً.
على عكس الشائع، يشهد سوق الرواية رغم انخفاض معدلات القراءة، ظهور قراء يقبلون على الروايات الضخمة، مجاراة لروائيين يكتبون روايات يتجاوز عدد صفحاتها الستمائة، وأحياناً الألف صفحة، وليس هذا دليل تميز ولا أفضلية، لكنها لم تعدم الاقبال عليها، حتى أنها طردت الروايات ذات الحجم الصغير. وبوسعنا التأكد من أرقام مبيعاتها المرتفعة، أو عندما تطالعنا الروايات الضخمة متربعة في المكتبات الكبرى والصغرى، وأكشاك البيع في المطارات وبجميع اللغات. وكأن الناس اعتادت على القراءة في عصر يتسارع، وبات البطء حاجة للتوازن الانساني.

إذا كان لا بد من اتخاذ موقف من الروايات الطويلة والضخمة، فأنا منحاز إليها، ومن المؤيدين لها، والمواظبين على قراءتها. استناداً إلى تجربتي الشخصية، وبمعيار شخصي. ليس دفاعاً عنها، بعضها يمتلئ بالكثير من الأحداث الفائضة، والشخصيات النافلة، وحوارات يمكن وصفها بالثرثرة المملة، الفجة والعقيمة.

لا يُنكر أن للروايات صغيرة الحجم متعتها التي لا تنكر، وهي المحبذة من أغلب القراء،غير أن الروايات ذات الحجم الكبير، توفر متعة فريدة تعوض الوقت غير الضائع في قراءتها، إذ لا تكتفي بالحدث والشخصيات، بل تبث الحياة في عصر مضى أو راهن، فقصص الحب التي تتكرر ملايين المرات، لا يقل فيها شأن العصر الذي وقعت فيه عن جوهر الحب؛ ليس هناك قصص حب عظيمة إلا وكانت على تضاد مع زمانها، ليس ذلك الزمان البسيط، وإنما العصر نفسه بما يحفل به من عقائد وأفكار وتقاليد ومفاهيم وأوهام…

قراءة الروايات الضخمة، أشبه بالدخول إلى معبد، أو جامع، أو كنيسة، أو قاعة سينما، تحتويك بعمارتها وظلامها ورموزها وتماثيلها وبخورها وتمتماتها وصمتها وتاريخها وكواليسها، وما تثيره من تداعيات لا حدود لها… نطل على عالم، قد نجهله تماماً، فنتعرف إليه، أو نعرفه، فتزداد معرفتنا به، لا يقتصر على معالمه من المدن والشوارع والحانات والأزقة الخلفية وطرز البيوت فقط،بل وأيضاً ما يمور فيه من بشر وأفكار ونوازع وأحداث وصراعات…

تستولي الرواية علينا، نعيش فيها، نصبح أحد شخوصها أو أكثر، وهي صالحة لتبديل مواقعنا فيها، تارة مع هذا وتارة مع هذه، نخوض في تلافيف عوالم، تنفتح على آفاق ومنحدرات، وحيوات نسعى وراءها، نتلهف لنعرف ما ستؤول إليه مصائرها، وكأنها حياتنا ومصائرنا.
تتيح لنا الرواية عموماً تجربة حياة أخرى، تجربة ذاتية، لا تزيد عن التأمل والتفكر، وقد تسهم في تغيير نظرتنا إلى العالم والذات والأشياء، بل وقد تجعلنا أفضل. هذا ما يدعى بلمسة الفن الروائي.