يخبرنا فواز حدَّاد جوانب من تجربته الروائية في كتابه “لقد مررت من هذا العصر”، والكتاب الصادر عن “دار المحيط” ضمن سلسلة “أنا الرواية”، هو بالأصل شهادة عن تجربته الروائية. لكنها شهادة تُغني القارئ الذي يجد في صفحاتها حكاية حدَّاد مع الكتابة كما يرويها. ومن جانب آخر، تغني الباحثَ المهتمَّ بأدبه، إذ أُتيح للروائي السوري البارز أن يعرض تصوّراته الشخصية عن مشروعه الأدبيّ، وكيف أراده.
يمكن للباحث قياس ما أراده حدَّاد مع ما صنعه بالفعل، ولن يقع على فارق كبير بينهما. وكأنّما حدَّاد كان يحاكم مشروعه أكثر ممَّا أخذَ يُفهرسه في أسئلة عامة عن الكتابة، من قَبيل لماذا نكتب ولماذا نستمر، ومن أين بدأت الحكاية؟
ما نعرفه كقرّاء من حكاية فواز حدَّاد، مواليد دمشق عام 1947، ككاتب تمتدّ لثلاثين عاماً. إلا أنَّ حكايته مع الكتابة بدأت قبل ذلك بكثير، ونعرف من سيرته التي يرويها هنا، أنّه بدأ الكتابة بعمر السادسة عشرة، ومنذ البداية كتبَ روايةً عن مراهقين غاضبين ومَلُولين يرفضون واقعهم، إلا أنَّه لم يكملها بسبب حاجته إلى الواقع، على الرغم من توفّر الخيال آنذاك، كما كتب في المسرح والسينما والقصة القصيرة. لكنَّ النشر تأخّر، أو لربما جاء في أوانه بالنسبة إلى كاتب بدا أنَّه تمرَّن على مشروعه طويلًا قبل أن يشهره وهو في عمر الرابعة والأربعين.
إذاً، بقي فواز حدَّاد يكتب من غير تفكير بالنشر طوال ثمانية وعشرين عاماً. وهذا تفصيلٌ ملهم يصوِّر للقرّاء كاتباً من زمانٍ آخر. إذ أبقى على قراره بأن يكون روائياً مضمراً طوال هذه السنوات. وهو قرار، لا حلم، ووصله بعد مجموعة من التجارب الكتابيَّة وبعد قراءة لظروف سائر الفنون الأُخرى، ولما يتوافق مع شخصيته منها. هكذا طَوّع حدَّاد نفسه لكتابة الرواية بصورة خاصّة، حتَّى ليبدو كونه روائياً أمرٌ سبق كتابته للرواية. وكُلُّ ما فعله عندما بدأ النشر الفعلي، أنَّه ترجمَ مهاراته الكتابيَّة ومعارفه الشتى في صنفٍ أدبي رآه يعبِّر أمثل تعبير عن مقولاتهِ وعن طبيعة زمانهِ، وهو فَنُّ الرواية.
في المقدمة يخبرنا حَدَّاد أنَّه قصد من كتابه النظرَ في رواياته. ويتساءل في آنٍ إن كانت خياراته صحيحة، وهذا تساؤل مُضنٍ، لا يكترث صاحب التجربة التي شملت خمس عشرة رواية لصعوبته؛ بل يَعدُّ الكتابة عن تجربته، فرصة لا لاستعادتها فقط وترتيبها، وإنَّما لمحاكمتها أيضاً. وهو يربط الكتابة بزمانها. وبداهة القول، أنا كتبت، تحيلُ إلى بداهة أُخرى، أنا مررتُ من هذا العصر. وتَركتُ ما يشيرُ إلى عبوري، تركتُ أثري الخاصّ الذي عُنيت بهِ طائفة من القرّاء، لم يعرفهم حَدَّاد، وإنَّما أحسَّ بوجودهم، وكانوا ملهميه في وجهِ الإقصاء وتجاهل النّقاد.
يقسم حدَّاد مشروعه الروائي إلى أربع مراحل؛ أولاها تبدأ مع رواياته الثلاث “موزاييك دمشق 39″ (1991)، و”تياترو 1949″ (1994)، و”صورة الروائي” (1998). وفيها عاد الروائي إلى التاريخ القريب كي يقرأ الحاضر المغلق. فالماضي لديه أسلوبٌ لسبرِ الحاضر. إنَّهُ ماضٍ مشوبٌ بالحاضر، ملتاثٌ بهِ، ملتبسٌ فيهِ ومعه، لا سيَّما مع حضور الحدث العام، سياسيّ الطابع، الذي يبحث عن حكاية اجتماعية ترتديه، تشيرُ إليهِ، كي يُقرأ الحدث السياسي على ضوئها وفي استرشادها وهديها.
تنتهي الروايات الثلاث التي بدأت على أبواب الحرب العالمية الثانية، مع ظهور العسكر في الحكم. لتبدأ مرحلة مختلفة من مشروعه في ثلاث روايات أيضاً: “مرسال الغرام” (2004)، و”مشهد عابر” (2007)، و”المترجم الخائن” (2008). ووجه الاختلاف دائماً في مشروع حدَّاد هو زمن الحدث، لا طبيعته ولا مكانه، فهو هنا يتحدَّث عن الحاضر الذي جَلبَ معه أسباب انحطاطه مما سبقه. وهو يعرض وجوهاً من الفساد السياسي والاجتماعي والفنّي. ثُمَّ في روايته التي حازت شهرة كبيرة “المترجم الخائن” يظهر نقدُ المثقف جزءاً من مشروعه، الموضوعة التي تستمرّ في رواياته الأخرى. فالمثقّف تحت حكم البعث إمّا انتهازي أو متسلّط. في حين مَن يمثّل وجاهة الثقافة وعُمقها يظهر دائماً خارج المشهد، متغرِّباً عن مجتمعه، غير معروف، وليس في الواجهة، بل في الهامش يكافح بسبب خياراته ومن أجلها.
يلتفت حدَّاد إلى قضايا راهنة في زمانها، كما الإرهاب في رواياته “عزف منفرد على البيانو” (2009)، و”جنود الله” (2010)، و”خطوط النار” (2011)، وهو يبحث هنا في قضية الإرهاب. ووراء ذلك، يقرأ عُنفَ الغرب وعنف الدولة، وأثرهما في عقائد الأفراد وفي خياراتهم الشخصية وصناعة مصائرهم.
صحيح أنَّه ينشغل بقراءة الراهن، لكنه يفكّك السياق الذي أنجب الشخصيات على تنوّعها، كما عندما قرأ الربيع العربي في المرحلة الأخيرة من أعماله التي صدر منها “السوريون الأعداء” (2014)، و”الشاعر وجامع الهوامش” (2017)، و”تفسير اللاشيء” (2020)، و”يوم الحساب” (2021)، وبقي في مشروعه هذا روايتان، إحداهما عن النظام والأخرى عن المثقفين. وفي مشروعه هذا سعي للإحاطة بجوانب المأساة كافةً، ما احتاج ست روايات لتفكيك البنية السوريَّة المتأزّمة.
المؤكّد أنَّ حَدَّاد يتهم النظام بوصفهِ نظاماً شموليّاً، المجموعاتُ البشريَّة فيه محض أدواتٍ يستخدمها لديمومته؛ بل في مشروعه بوجهِ عام ينظرُ إلى البشر نتاجاً لنظامٍ ما. فالبشر ليسوا أحراراً بقدر ما هم نتاج لظرفٍ صنعهم، لعقيدة أو لفكرة. وعلى ضوء هذا، تتأتَّى واقعيَّةُ أدبه من فكرةٍ مفادها أنَّ الشخصية تُقرأ ضمن ظرفها السياسي الاجتماعي الذي أحاط بها وصنعها. وفي مدى ارتهانها لشرطها، الذي قد تمتثل له أو تكافحه. وفي هذا التفصيل يقرأ عمق الشخصيات، ونزوع كاتبها لا إلى الامتثال، وإنّما إلى الإطلاق والحرية عبر دفعه الشخصيات إلى الوعي بما صنعها.
بالنسبة إلى كاتبٍ روى واقعاً أنهكهُ القمع وضيق الهويات، لا تأتي نصائحه في الشكل فقط، بل تأتي على نحو يقول فيه: اكتب بصورة مباشرة عمَّا يشغلك، وعمّا يجرح إنسانيتك ويُثقلها بالمظالم. وكتابة فواز حَدَّاد شهادة عن كفاح الإنسان في وجهِ ما صنعه، ولربما أبلغ نصائحه: اكتب بشجاعة، كي نعبرَ الزمان الضيق.
-
المصدر :
- العربي الجديد