يعتبر الروائي فواز حداد أحد اهم الروائيين السوريين، وربما كان أهم من كتب عن دمشق واحداثها وتاريخها.. ولكن حبه لـ دمشق وانتمائه لها لم يمنعه من الذهاب في روايته الأخيرة الى الحالة العراقية، لأنها حسبما يرى، كحالة عامة مؤثرة في الأوضاع الثقافية والسياسية العربية، وكمكان تجري عليه أحداث مصيرية لا تتعلق به فحسب، بل بالمنطقة كلها. وهو لا ينكر ابدا انه إيديولوجي، وأنه يكتب من خلال منظومة فكرية، ولا يخشى من طرح أية مسألة سياسية أو فكرية. منوها الى ان الأيديولوجية اليوم مذمومة، بينما احتلت على مدار عقود الصدارة في أي عمل أدبي، ويرى حداد، في حوارنا معه ان المطلوب من الرواية أكثر مما يحصى، أحدها تشخيص الواقع وطرح الأسئلة، وربما إيجاد الحلول مع أنه ليس من أهداف الرواية.
والروائي فواز حداد من مواليد “دمشق”، حصل على إجازة في الحقوق من الجامعة السورية، تنقل بين عدة أعمال قبل أن يتفرغ كلياً للكتابة قبل عدة سنوات.
من مؤلفاته:
– “موازييك دمشق 39” ـ – “تياترو1949” ـ “الرسالة الأخيرة” ـ “صورة الروائي” ـ “الولد الجاهل” ـ “الضغينة والهوى” ـ “مرسال الغرام” ـ “مشهد عابر” ـ “عزف منفرد على البيانو ” ـ “جنود الله “

* ـ كيف كانت البدايات، ومن هم الكتاب الذين تركوا اثراً فيك، ما هو أول عمل إبداعي كتبته، ومتى وهل تم نشره؟

البداية كانت مبكرة، في بدايات اليفاعة، لم أكن قد بلغت الرابعة عشرة من عمري عندما كتبت بعض القصص القصيرة. كنت في هذه السن المبكرة قد تأثرت بالكاتب الروسي تشيخوف بعد أن قرأت له عدة مجموعات قصصية. في السادسة عشرة كتبت مسرحية من ثلاثة فصول، ثم كرت السلسلة؛ رواية وسيناريو ومزيد من القصص القصيرة. خلالها كنت أكثر ميلاً للرواية، مع هوس بالسينما، حتى أنني فكرت بدراسة الإخراج السينمائي، لكنني تراجعت في آخر لحظة، فضلت الرواية، بمعنى آخر اخترت القلم والورق. ولم أتوقف عن الكتابة حتى بلغت أعمالي زهاء أربعة عشرة عملاً متنوعاً، لكنني لم أنشر، كنت متخوفاً. افترضت أن هناك سوية للأدب لم أصل إليها بعد، وهذا ما شجعني على المواصلة وأحبطني في آن واحد.
خلال هذه السنوات، لم أنقطع عن القراءة، رغم زحمة الحياة وتكاليفها، حاولت الإطلاع على كل شيء دون تمييز. تعرفت إلى روايات نجيب محفوظ في سن مبكرة، وكان هذا من حسن حظي، وهذا ما منحني ملكة الحكم على الأعمال الجيدة، وطالما اعترفت بمديونيتي له، كذلك بكبار كتاب الرواية في العالم. لا أخفي أن الكثيرين أثروا فيَّ، وهذا ما ساعدني على معرفة الأرضية التي أقف عليها، والانطلاق منها. وأطلعني على خريطة الرواية العالمية، ربما لهذا تخليت عما جميع ما كتبته عدا مجموعة قصصية واحدة، كانت البذور الأولى لبعض أعمالي الروائية.
قبل نحو أزيد من عقدين قررت النشر، بعد أن اعتبرت أعمالي السابقة، كأنها لم تكن، مجرد تدريبات أفلحت في أن تشكل تمهيداً لما كتبته فيما بعد. ابتدأت رحلتي في الكتابة الروائية في ذلك الوقت، واتخذت شكلا جدياً ومسؤولاً. أقصد لم أتهاون مع كسلي. كان لدي ما أريد قوله، وكنت تواقاً لكتابته.
* ـ يلاحظ أن المكان هو البطل الأساسي في معظم أعمالك الروائية، وان اغلبها يدور حول المدينة بشكل أساسي؟
أعتقد أن المكان الدمشقي لعب دوراً كبيراً ومهماً في أعمالي لاسيما الأولى (موزاييك ـ تياترو ـ صورة الروائي). وهو أمر لم أتقصده، ولم أبالغ به، جاء تلقائياً وفرض نفسه عليّ. بالنسبة إليّ كما هو ملاحظ في رواياتي، عدم إغفال المكان، ولا التعمية عليه بمدن أخرى، أو بمدينة من صنع الخيال. إنه حاضر دائماً، ومتجسد كشيء مفروغ منه. برأيي، حتى لو كانت صورة المدينة من صنع تخيلاتنا، فجذورها وعناصرها وملامحها نستمدها من الواقع، مهما كانت مخالفة له ومختلفة عنه.
للمكان قصة في حياتي نفسها. في عز انشغالي بتأمين عمل ثابت لي، قبل منتصف السبعينيات بقليل، كانت دمشق التي اعرفها قد بدأت تغيب عن ارض الواقع. لم يكن مكاني الشخصي مهدداً فحسب، وإنما على وشك أن يزال عن وجه الأرض، كانت عمليات الهدم جارية في حارتي “البحصة البرانية” التي تعتبر امتداداً لأزقة “سوقساروجة”، ما شكل تفريغاً قسرياً لذاكرتي، بدت حياتي الماضية، ستمحى شواهدها من مرابعها. في تلك اللحظات العاطفية، تصورت أن حياتي لم تكن أكثر من خيالات وتخيلات، فاستعدتها في رواياتي، كفعل مكابرة وعناد، وكأنه ما زال لماضيّ فضاء تتحرك شخصياته فيه، وكانت الرواية عامل ثبات في داخله، من خلالها أدركت العلاقة المتعددة للبشر بالمكان، يختلط فيها الحنين بالقلق بالعواطف والطفولة والأحلام… والمساهمة في صنع الأحداث، وتشكيل الصور البصرية التي سأقارن من خلالها المدن الأخرى.
لست آسفاً، أحس أن المدن متحولة، وترتدي كل فترة زياً مختلفاً، لكنها على أرض الواقع كانت خسارة كبرى، إذ من الممكن أن تتجاور أزياء المدينة على مدى عصور مختلفة، ما يدل على ما مرت فيه من عهود متتالية، لكن بعضها هدم أو عُبث به، من أجل لا شيء سوى الجشع، هذا التحديث، مرض لا علاقة له بالحضارة ولا بالتمدن، وإنما بعدم الدفاع عن خصوصياتنا ومعالم المكان والعصر لقاء مقابل زهيد.
هل أغلب رواياتي تدور في المدن؟! لا، بل كلها. أحب الريف، لكنني مجرد زائر أو متنزه فيه، وإذا مرَّ في رواياتي فمرور العابر. أنا نفسي إنسان عابر.
* ـ أيضاً.. لفتني ذلك التداخل بين الماضي والحاضر والمستقبل في رواياتك؟
اعتقد أنه ليس من رواية عربية تفلت من هذا التداخل بشكل أو بآخر، طالما أننا نعيش الأزمنة الثلاثة معاً على نحو عجيب، نحن مشدودون إلى الماضي، وفي الوقت نفسه نحلم بالمستقبل، ونعيش حاضراً بائساً كسيحاً معطلاً عن الفعل.
وإذا كان المستقبل يتراءى لنا؛ فنحن نتقدم نحوه وهو يبتعد عنا، لكن الماضي هو الأقوى، إنه زمن ثابت، وإن كان قد طوي، ليس بوسعنا إلغاؤه ولا زحزحته، أكثر ما يمكن فعله هو تأمله، لا استعادته وتأثره والعيش فيه مرة ثانية إلا في الخيال. ليس ثمة إنسان بلا ماض، أي من دون ذاكرة، إلا فاقدي الذاكرة، وإلا فقدنا الاتجاه، فهو ليس حدثاً انتهى، بل ما يزال سارياً في حاضر سرعان ما سيصبح في تلافيف الماضي.
هل هذا حقيقة، أو ما نتصوره فحسب؟ سواء كان هذا أو ذاك، لِمَ لا يسري في نسيج رواياتنا. هذا إذا كانت الرواية أمينة لمشاعرنا ومخاوفنا.
ثم ماذا يكون الإنسان، غير هذه الأزمنة الثلاثة مجتمعة معاً؟!
* ـ التأكيد على الزمن والتأريخ في أعمالك يطرح سؤالاً حول العلاقة بين الروائي والمؤرخ والحد الفاصل بينهما؟
لا مفر من العلاقة بينهما، وإن كان كل منهما يكتب التاريخ على طريقته، تبعاً لطبيعة عمله، وهذا لا يمنع من أن يستفيد أحدهما من الآخر. أصلاً تستمد الرواية التي تُعنى باستحضار زمن مضى، من كتابات المؤرخين، لولاهم لا تاريخ وبالتالي لا رواية، فهي تستعين بجهدهم، هذا لا يمكن إنكاره. يمنح الكاتب نفسه الصلاحية والحرية في معالجة موضوعه والغاية المتوخاة منه، ويستعين بالخيال في رسم فترة زمنية وترميمها، يمتزج فيها السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي واليومي والشخصي… في لوحة واحدة، لا تتوسل التاريخ وحده، بل وعلى الأغلب تأخذه ذريعة لسبر الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، هذه الخليطة أو العجينة تختلف عياراتها من رواية لأخرى.
ثمة رؤية تحكم الروائي، ولا استثني طبعاً المؤرخ من رؤية تخصه. الفارق أن المؤرخ تتحكم فيه الوثائق والموضوعية والجهد الأكاديمي. أما الروائي فالخيال يتيح له التخفف منها، في سبيل مقاصد قد لا يبتغي من ورائها الحقيقة ولا التاريخ، ربما ما هو أبعد من الحقيقة والتاريخ معاً، رؤية يمتزج فيه الحدس والحس والتخيلات والتهويمات. وفي هذا مجازفة لا تطيقها سوى الرواية.
* ـ يغلب الطابع الإيديولوجي على مجمل أعمالك.. الأمر الذي يدفعني للسؤال عن مفهومك للالتزام، وما الذي تريد أن تقدمه من خلال أعمالك بشكل عام، وما هو المطلوب من الرواية أساساً.. تشخيص الواقع وطرح الأسئلة أم إيجاد الحلول؟
اليوم الأيديولوجية مذمومة، بينما احتلت على مدار عقود الصدارة في أي عمل أدبي، هل هذا مزاج القرن الحالي؟ لا، وإنما نوع من الفهم السيء لما يجري في العالم، والبعض يريدون التنصل منها، بسبب عدم الدقة في استعمال المفاهيم، او قصر النظر.
على كل حال رواياتي تفتقر إلى الإيديولوجية بصيغتها المتهافتة. لدى كل منا إيديولوجيته، أنا لا أخشى من طرح أية مسألة سياسية أو فكرية. أنا ايديولوجي بمعني أنني أكتب من خلال منظومة فكرية، ولا أكتب من فراغ، ولا أرغب في التخلص من القضايا العالقة فيها البشر، خصوصاً منطقتنا، ولن أتجاهلها، كل ما يهم الإنسان يهمني، لا أستبعد شيئاً. وليس لدي فوبيا من أي شيء، هذا محكوم بمدى أهميته ولو كان مضاداً لمزاجيتي وأهوائي.
الحياة لا تمنع شيئاً على حساب شيء، فلماذا يسعون إلى المنع؟ إذا كانوا اليوم ينتقدون القضايا الكبرى ويسعون إلى التخفف منها، فأنا على العكس أمضي إليها. لست مستعداً لإفقار رواياتي، توسلاً لدعوات مريضة بالحداثة الاستعراضية.
أعيش عصري وأريد الكتابة عنه، لن أختلق عصراً آخر متوهماً وأسعى إليه. مسؤوليتي تجاه ذاتي والبشر والحياة، أكثر منها تجاه تيارات وافدة، مهما كانت جاذبيتها. ينبغي أن نقف موقفاً مضاداً لما يأتينا من الغرب التجاري، ولا أرغب في الانسياق وراء دعايات الأكثر مبيعاً على شاكلة ” دافنشي كود”. وإنما أن نتبصر بأعمال ساراماغو وكوتسي… هذه هي الرواية العالمية. في الغرب تكتب أعمال عظيمة ورائعة، لماذا نجري وراء روايات الموضة؟!
المطلوب من الرواية أكثر مما يحصى، أحدها تشخيص الواقع وطرح الأسئلة، وربما إيجاد الحلول مع أنه ليس من أهداف الرواية. المهم أنها تسهم بتغيير نظرتنا إلى الأشياء، وتثري حياتنا، وتجدد رؤيتنا للعالم.
ساعدتني الرواية على فهم الحياة بشكل أعمق، وقد تساعد غيري، لم لا، وإلا لماذا قراءة الروايات؟ المتعة التي تهبنا إياها الرواية، لا تورطنا فحسب، بل وتشجعنا على العيش بشكل مسؤول وتجعلنا نحس بالحياة والآخر، نتبصر بهما، ونتفهمهم أكثر.
* ـ إلى أي مدى يستطيع الكاتب أن يكون حيادياً في تسيير شخصيات روايته؟
في الحقيقة، لا يستطيع وإنما يحاول أن يكون حيادياً، وفي هذا تتبدى براعته، وهو جانب مهم يشير إلى أنه لا يحق له التحكم فيهم، إنها مصائر بشرية حقيقية، هناك أمثالها في الواقع. إن الانحياز إليها أو ضدها، ينبغي أن يكون في منتهى الحذر، لذلك يحاسب الكاتب. إن اختيارات أبطاله هي اختياراته في النهاية، وهو مسؤول عن الدفاع عنها، سواء كان ضدها أو معها. وهذا لا يعني على الإطلاق تبنيها، وإنما أن تكون مسوغاتها حقيقية.
يتعامل الكاتب مع شخصيات رواياته بتبصر شديد، وألاحظ أن العلاقات بينهما متوترة، فمن جانب يطلق لها العنان لتتصرف كما يحلو لها، وفي الوقت نفسه، يضبط حركتها، إذ هي لا تتحرك في فضاء خال من البشر، ولا تمتلك حرية مطلقة تسوغ لها فعل أي شيء، على الورق تحكمنا الحياة أيضاً.
* ـ يلاحظ وجود خيط رفيع يربط أبطال فواز حداد مع بعضهم، ويجعل حضورهم متواصلاً عبر تتالي رواياته؟ ما مدى صحة ذلك، وكم في رواياتك من السيرة الذاتية؟
هذا أوضح ما يكون في رواياتي الثلاث الأولى، نشهد تكون الشخصية، مثلاً في “موزاييك” في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، بحيث أستطيع الزعم أن هذه الشخصية ابنة تلك المرحلة من تاريخ سورية. ثم تظهر في “تياترو” أواخر الأربعينيات، ترى ماذا حلّ بها، وبأي شكل، أو صفة تظهر؟ بمعنى ما هي الشخصية الأكثر تعبيراً عن تلك المرحلة، فالمثقف الوطني البرجوازي في ومعه ضابط جيش الشرق في”موزاييك”، يصبح أولهما الصحافي الباحث عن الحقيقة. أما الثاني فيقوم بالانقلاب الأول في سورية وهذا في “تياترو”. ثم يتكرر ظهورهما في “صورة الروائي” في السبعينيات، المثقف يصبح مناضلاً، أما العسكري فينطلق في مغامراته الانقلابية. وكأنهما هذه الشخصيات وليدة العهود التي تخلق فيها. طبعاً الشخصيات منفصلة عن بعضها بعضاً، ويسهم في تشكلها على هذا النحو أو ذاك، الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري، لا يعني هذا حتمية هذا التشكل، وإنما الصورة الغالبة عليه.
بالنسبة لسيرتي الذاتية، لا شك في أنها مبثوثة في أعمالي كلها، ربما لمحات أو مراحل من حياتي وذكرياتي، أو أفكاري، وبعض من تصرفاتي وسلوكياتي…الخ. أي ماذا لو كنت أنا ذلك الآخر؟! لا يمكن عزل الكاتب عن كتاباته، مهما بلغ التناقض بينهما، فالرواية لا محالة تحمل شيئاً من الروائي.

* ـ استوقفتني في روايتك الأخيرة (جنود الله) عبارة ” ترتبط الذاكرة بالبصر والبصيرة، بالنسبة إلى البصر، أنا لا أرغب في أن أرى، أما البصيرة فما أصابها أشد من العمى”؟
ترتبط الذاكرة بالصور كما ترتبط بالاستبطان، أي تأمل ما يجري أو ما جرى من خلال حمولة الذاكرة. أي الصور وإلى جانبها رؤيتنا لهذه الصور، أي كيف نستعيدها ونراها، وإلا لن تعني الصور سوى أنها متحركة.
بالنسبة للبطل في “جنود الله”، يرفض الذاكرة برمتها، لأنه يريد نسيان ما مرّ عليه، لديه خشية من هول ما يمكن أن يعانيه من ألم فيما لو حاول استرجاع أحداثها، واعتبارها كأنها لم تكن. أطلقت على هذه الحالة “فقدان الذاكرة الإرادي”. خشية مواجهة ما تشكل استعادتها تهديداً وتدميراً له.
* ـ هاجمت المثقفين بشدة في رواية (المترجم الخائن). ما حقيقة موقفك منهم، وهل أنت مع مقولة موت المثقف؟
لست مع مقولة “موت المثقف”. بل وأعتقد أن بلادنا في هذه الفترة أحوج ما تكون إلى المثقف والثقافة. نحن في زمن الفوضى واختلاط المفاهيم واللاوضوح، وهذا الغموض السخيف. لهذا الحاجة إلى المثقف ماسة جداً.
وهذا لا يقتصر علينا فقط، بل وعلى العالم الذي لم تتراجع حاجته للثقافة والمثقفين مهما كانت هذه الحاجة، ولا ننسى أن للمثقفين أحياناً أدواراً تخريبية، لاسيما إذا كانت طموحاتهم تنحو نحو التسلط، كما لاحظنا لدى المحافظين الجدد في أمريكا الذين اختلقوا لبلادهم مطامح استعمارية في القرن الحالي، وأعادوا الاعتبار للقوة العسكرية لفرض ما تعجز عنه الثقافة، أو بصرف النظر عنها، لكن بالاستعانة بها!!
أما انتقادي للمثقفين في بلادنا العربية، فلأنهم أكثر من أسهم في خلق حالة عبثية مرعبة، بتميّعهم للمفاهيم، والارتداد على أنفسهم وتاريخهم، هذا الارتداد لا يمكن تفسيره إلا بعوامل الفساد، والالتحاق بليبرالية نفعية ووصولية، تتنكر لمواقف أصبحت تشكل عبئاً كبيراً على حامليها. بينما مواقفهم الجديدة ترتد عليهم بفوائد أكبر.
كل هذا بات الدفاع عنه بمقولات كبيرة، وكان من أسهل الأمور تحليل الحرام وتحريم الحلال، أصبح بوسع الثقافة تبرير أي جريمة، بل وتجريم الأخلاق.
* ـ كما يرى ناقد، انك أدنت في رواية جنود الله استقالة اليسار الذي لم يحتمل الهزيمة، واستفاق متأخراً على أنه أنجب جيلاً على شاكلته من حيث التطرف المعاكس؟
في أحد جوانب الرواية تعبير عن أن استقالة اليسار من أسباب الفراغ في الساحة السياسية، هذا الفراغ ملأته تيارات متعددة، كان أكثرها فاعلية على الأرض المتأسلمين المتطرفين بسبب الدعاية الإعلامية الصاخبة المرافقة لعملياتهم الدموية، بدت كأنها الأكثر فعلاً وفاعلية في الإلغاء، استغله الغرب لإسباغ هذه الصفة على الإسلام والبلدان الإسلامية. الغرب لم يحاول تفهم أن هذه الظاهرة محدودة، كان في تضخيم حجمهم تبرير للتدخل الغربي في البلدان العربية، وفرض املاءاتها. لا نختلف معهم في أنها ظاهرة خطيرة، وهي أول ما ترتد على مجتمعاتنا وما تحصده من خسائر بالنسبة لأجيال الشبان. عموماً أظهرت عورات الأنظمة وفسادها وفقر مجتمعاتنا إلى القيم الأخلاقية الحقيقية، والأهم التدين السطحي المفتقد للدين نفسه ولجوهر الإسلام الحقيقي.
* ـ وبالتالي ما هو دور المثقف برأيك، كيف ترى طبيعة علاقته مع السلطة السياسية؟
غالباً لا يكون المثقف على وفاق مع السلطة السياسية إلا إذا كان من مثقفيها الذين يعملون لحسابها، ويبررون لها توجهاتها وخططها. في حين على المثقف غير السلطوي الإبقاء على مسافة بينه وبين السلطة تسمح له بانتقادها. مهما كانت السلطة السياسية مثالية فهي بحاجة إلى النقد، السلطة مفسدة، ومكان موبوء بالمساومات والتسلط وإمكانية النهب والكذب والادعاء… إن وضعها يؤهلها للانحراف في حال لم توضع تحت الرقابة الدائمة. هذا ما نراه في الغرب، حيث السلطة معرضة لرقابة الجهاز التشريعي ولوسائل الاعلام، ومع هذا نسمع كل يوم فضيحة عن ممارسات أصحابها.
إن واحدة من أكثر الأخطاء التي يرتكبها المثقف هو الانخراط في السلطة. للأسف، تشكل السلطة اغراء كبيراً للمثقفين، وكأن أحلامهم ورؤاهم ستوضع موضع التنفيذ في حال كانوا إلى جانب السياسيين، حسب اعتقادهم سيكونون العقل المفكر للسلطة، لكنهم لن يكونوا إلا أحد أدواتها، ومجرد واجهة تجري وراءها كل ما يشكل خروجاً على القانون والحرية والعدالة. وهذا لا يعني أن يتخذ ضدها مواقف عدائية مسبقة.
* ـ لاحظت اتجاهك نحو الحالة العراقية في أعمالك الأخيرة ففي “المترجم الخائن” فصلين عن النحات العراقي وفي “جنود الله” ذهاب مباشر إلى الحالة العراقية؟
الحالة العراقية ضاغطة على الوضع العربي برمته، وفي الوقت نفسه كانت قوية التأثير على العالم، وامتحاناً للغرب، أثبت انتهازية الأمريكان وغالبية أوربا.
العراق اليوم يقدم أنموذجاً خارقاً على المتغيرات الدراماتيكية، نرى من خلاله مشهداً قلّ نظيره في طلب الحياة والعيش رغم جميع المعوقات من الاحتلال إلى العنف والتقاتل المذهبي والتفجيرات…الخ . تثبت أن العراقيين من الجنس الأقوى القادر على البقاء، وفي هذا معاناة هائلة، لا يمكن أن يعبر عنها سواهم.
في الواقع أنا لا أكتب عن العراق، هذا شأن العراقيين بالدرجة الأولى، هم أدرى بتفاصيل شؤونهم الحياتية، كتبت عما يجري في العراق كحالة إرهابية عامة مؤثرة في الأوضاع الثقافية والسياسية العربية، وكمكان تجري عليه أحداث مصيرية لا تتعلق به فحسب، بل بالمنطقة كلها. هذا الحدث المؤلم قد يصادف أي بلد من بلدان الجوار، العراق شكل بؤرة ضعيفة اتخذته أمريكا ذريعة للاحتلال على الرغم من معارضة المجتمع الدولي.
* ـ يلاحظ بعض النقاد إن الغالب الأعم من العلاقات الغرامية في الرواية العربية علاقات تعاني من لعثمات وعسر في اللسان والجسد في الروح والتبليغ يلازمها الإحباط والفشل، الفقد والتخلي، علاقات لا تتفوق إلا بالقتل الفعل، أو الموت المبكر، أو الخيانة التي تشبه خط الهروب لأنه خط النجاة . ما رأيك؟
يعكس المجتمع تشوهاته على علاقة الرجل بالمرأة. لذا يبدو من الطبيعي أن تظهر هذه العلاقة في الرواية العربية على هذه الشاكلة، غير حرة ولا منسجمة. ولقد عانت الرواية قدراً لا بأس به من هذه التشوهات.
في العقد الأخير، بدا وكأن بعض الروايات أخذت تستعير شخصياتها من الغرب، ومعها مشاعرهم وتصرفاتهم وطموحاتهم. فوقعت في مطب آخر، باتت الرواية غريبة على المرأة، وعلى العلاقات العاطفية. ونشأ ما يدعى بالذكر الفحل، والمرأة المشتهاة، وهذه لا تشكل نماذج طبيعية، وإنما شيء أشبه بأحلام اليقظة.
عموماً لم تنجح الرواية بتصوير علاقات صحية تصور أوضاع الرجل والمرأة في مجتمعاتنا. فلم تظهر فيها ما يقيدها فعلاً وما يمنع تكاملها. غالباً أثقال المجتمع بالذات هي التي تقتل العلاقات العاطفية وتشوهها. هذا على الرغم من نجاح بعض الروايات بالخروج من هذا المأزق.
* ـ هل أنت متشائم في الحياة إلى الحد الذي تذهب إليه في أعمالك؟
لا، وإلا توقفت عن الكتابة، التفاؤل هو ما يجعلني مستمراً في الكتابة، مع أنني لا أتوقع من الكتابة بالذات مردوداً سريعاً على أرض الواقع، وإنما على المدى البعيد جداً. وبلا شك كان اختياري للكتابة بالذات، تفاؤلاً كبيراً، بمعنى أن تؤمن بالكتابة لا كمصدر عيش، وإنما كأداة للفعل والحلم والقتال والتغيير والنقد… يحمل قدراً من التفاؤل يتضاءل إزاءه ما يحف بنا من تشاؤم مهما بلغ حجمه.
وبالمناسبة، رواياتي غير متشائمة على الإطلاق، لاسيما وأنها لا تنتزع لنفسها حلولاً مغلقة، الحياة رحبة ومن الخطأ إغلاقها. ربما لم تخل بعض شخصياتي الروائية من التشاؤم، وهذا لا يعني أنني متشائم، أو أنه رؤية أصر عليها، التشاؤم حالة عارضة، إلا إذا كنا بصدد مريض نفسي، تسيطر عليه فكرة ثابتة.
* ـ تعتمد في رواياتك كثيراً على الحوارات الداخلية للشخصيات وسبر نوازع النفس البشرية بشفافية وعمق؟
في داخل كل منا، شخص قد يشبهنا أو لا يشبهنا، التطابق بين المظهر الخارجي والحقيقة الداخلية، عبارة عن أمر مستحيل، وهو انسجام نادر. لذلك كان الحوار الداخلي فعالاً، إنه يدور بين اثنين، قد يكونان متقاربين أو متناقضين. كلنا يعيش هذه الدراما، بعضنا بصدق، وبعضنا الآخر بنفاق، وهم الأغلبية، حتى دخيلتهم مزورة، يقنعون أنفسهم باختياراتهم.
هذا ما أحاوله، ولا أدري في ما إذا حققت شيئاً.
* ـ في روايتك “مرسال الغرام” تظهر مفارقة للضعف الإنساني حيث تشير إلى تمتعه بقدرات كبيرة، بحيث يقف الشر عاجزاً أمامه، ولا يستطيع أن ينال منه؟
في هذه الرواية، الضعف الإنساني كناية عن البراءة والسذاجة، وهما نقيضا القوة والذكاء، اللذين يستعين بهما الشر للسيطرة على العالم والبشر، طبعاً قد يثيران الإعجاب، لكن ليس التقدير. لا يعني الضعف الإنساني عدم المقاومة، بالعكس يهب القوة، والأهم لدى أصحابه القدرة على تحسس الألم البشري والعجز والسعي نحو السلام ومساعدة الآخر. وإذا كان الشر يقف عاجزاً أمام الضعف الإنساني، فلسبب بسيط، ليس لدى الإنسان الضعيف ما يخسره، إنه يقاتل باستماتة.

* ـ انتقدت في رواية “عزف منفرد على البيانو” وسائل الإعلام وتركيزها على ما يوافق سياسات القيّمين عليها وتهميشها لما عدا ذلك، والسؤال كيف لوسائل الإعلام أن تمتلك حريتها في هذا الواقع؟
منذ زمن ليس بالبعيد، أطلق على الصحافة لقب “السلطة الرابعة”، لسيطرتها وقوة تأثيرها، ولفاعليتها في كشف الحقائق والجرائم والفساد، فلنتذكر أنها أسقطت من السلطة نيكسون رئيس أقوى دولة في العالم، هذا على سبيل المثال. كما كانت إحدى الوسائل الرئيسة في إشعال الثورات. ماذا تكون المنشورات السرية سوى أنها جزء من تحرك إعلامي عبارة عن مطبوعات توزع بالخفاء؟
الإعلام اليوم، ليس مدعاة للثقة، إنه ملكية لجهات تنحو إلى تكريس السيطرة على العقول، من الممكن ترويج أية كذبة على أنها حقيقة، غزو العراق تم على أساس وثائق عرضت في جلسات الأمم المتحدة، ثم ظهر أنها ملفقة، لهذا دعيت بحرب الأكاذيب. من الممكن بكل بساطة اليوم إجراء غسيل دماغ لشعب بأكمله، ودفعه إلى القيام بثورة ملونة، ثم يظهر أنها ليست ملونة، وإنما انقلاب فبركته أجهزة المخابرات في واشنطن.
يرتكب الإعلام جرائم لا يستهان بها، فعدا خديعة الشعوب، تمزيق الدول وتجزئتها، وافتعال الحروب الأهلية والطائفية. أما كيف لوسائل الإعلام أن تمتلك حريتها؟! فلابد أن تتحرر من رؤوس الأموال التي تتسلط عليها، والأطراف الخارجية، وأصحاب المصالح. العملية ليست سهلة، هذا يعني موت الإعلام الحالي ونشوء إعلام جديد. ما يبدو أشبه بحلم.
* ـ يسجل النقاد لك تمكنك من اللغة وتطويعها وسلاسة السرد في أعمالك؟
اللغة وسيلة الكاتب الرئيسة والوحيدة للتعبير عن أفكاره. للغة مستويات، ولا أقصد البلاغة ولا الشاعرية، وإنما مستويات التعبير، ما يمنحها أهميتها وقوتها، بالعكس الإفراط في الشاعرية والبلاغة يرتد على الرواية بالترهل والإفاضة في غير مواضعها. بمعنى أن مستويات اللغة في الروايات، تعني لكل مقام مقال، لكل موقف اللغة التي تناسبه، لكل فكرة الثقل اللغوي الملائم لها…الخ.
إن أي إهمال للغة يؤثر في سوية العمل الأدبي، لا يُضعفه فحسب، بل ويقضي عليه. لا تنفصل اللغة عن الرواية، وبمقدار ما يكون الروائي متمكناً من أداته هذه، يمنح لروايته عمقاً أكبر، أي لا يمكن أن تكون اللغة جيدة والعمل ضعيف. العملية متكاملة.
* ـ تقول عن التجريب انه وسيلة الكاتب إلى استدرج القارئ إلى مغامرة، ربما كان بغنى عنها؟
هذا إذا كانت التجربة مجانية، أي لعب شكلي ولغوي، مما يشكل فائضاً على حدث يبقى باهتاً، دون حامل حقيقي. العمل التجريبي مهم جداً، ولابد أن يحوز الكاتب مهارات وكفاءات حتى يقدم عليه، إذ لا يصح بأي شكل من الأشكال الفصل بين الشكل والمضمون، لا مضمون بلا شكل والعكس صحيح. لا يمكن للشكل أن يؤدي الهدف منه إن يكن هناك حامل يسنده، كذلك لا يمكن للمضمون أن يصل إلى القارئ إلا من خلال شكل ملائم.
أما إذا كان اللعب شكلانياً بحتاً، فهو مغامرة ممتعة، لا آفاق لها، أو هي محدودة بالارتجاجات التي تحدثها داخل حيز محدود. قد يستمتع بها بعض القراء، وربما كان غيرهم بغنى عنها. أما إذا حقق الكاتب ذلك التوازن والانسجام بينهما بحيث لا نعرف نصيب كل منهما في العمل الأدبي، يكون الكاتب قد حقق قفزة مثيرة، ولو كانت في المجهول.
* ـ اتهم النقاد رواية “مشهد عابر” بالضعف الفني، ما رأيك، وكيف هي علاقتك بالنقاد شكل عام؟
“مشهد عابر” كانت من أكثر رواياتي إقبالاً عليها من القراء والنقاد معاً. وهذا ما أثار قلة من المتابعين. أما الذي اتهمها بالضعف الفني، ولم يثبت دعواه، فلم يكن رأيه نقدياً، ولم يبرره أو يعلله، أو يأتي بمثال، وإنما ألقى الاتهام فقط. هذا الرأي سيق لأسباب لا علاقة لها بالأدب ولا بالرواية. وكان من جملة الآراء التي طالت بعض رواياتي من دون وجه حق، وبالتالي لم يتوقف أحد عندها، ما دام أنها على علاقة بالأمراض التافهة للوسط الثقافي، وهو وسط يمتلئ للأسف بالمتطفلين الذين لا يتورعون عن إلقاء التهم جزافاً. أنا لم أقصر فيهم في روايتي “المترجم الخائن”.
علاقتي بالنقد والنقاد جيدة، مع أنني لا أعرف غالبيتهم. كل من كتب عني، كتب من دون سابق معرفة بيننا، لم ينتقد أو يقرظ إلا لأن الرواية نفسها حرضته على الكتابة عنها. هذا في القسم الأعظم من رواياتي. وعلى أثرها نشأت علاقات اعتز بها، مع أن الحياة كانت ضنينة باللقاءات.
* ـ أسماء أعمالك ملفتة: موزاييك دمشق 39 ، تياترو 49، صورة الروائي، الولد الجاهل، الضغينة والهوى، مرسال الغرام، مشهد عابر، المترجم الخائن، عزف منفرد على البيانو، ومؤخراً جنود الله.. كيف تختارها؟
أحياناً يأتيني العنوان مع البدء في الكتابة، هذا لا يعني أنني استقريت عليه، وهو ما يعرضه للامتحان على مدار الرواية. أحياناً أخرى، يستمر البحث عن عنوان إلى ما بعد الانتهاء من كتابة الرواية.
ليس من السهل العثور على عنوان ملائم، عليه أن يحوز على عدة خصائص، احتواء الرواية بالكامل، أو المعنى الخفي لها، أو المعنى المعاكس، وربما كان ملتبساً، أو التركيز على وصف لشخصية البطل في الرواية، أو يشير إلى مرحلة زمنية معينة…الخ.
أي ليست هناك وصفة مثالية لاختيار العنوان. هذا تابع للفكرة طبعاً، ولتقدير الكاتب لما يضيفه أو يشير إليه العنوان.
* ـ عندما تقوم بكتابة رواية .. هل تكون ” الحكاية ” بكامل شخصياتها وتفاصيلها حاضرة في ذهنك؟
غالباً لا، وإلا انقلب الكاتب إلى مجرد منفذ آلي، وخسر ما سوف تتحفه به عدم معرفته من مفاجآت. بالنسبة إلي، أبدأ أحياناً من منظر أو لقطة، وهذا ما يقودني إلى منظر آخر وشخصيات تأتيني بالتوالي. أو تمنحني الفكرة نفسها منافذ للتعبير عنها من خلال الأحداث، أو أن الأحداث نفسها تثير في داخلي مجموعة من التساؤلات، تدفعني إلى الإجابة عنها، ولكي أفهمها، أحاول تجسيدها في الرواية، لأنها تشكل أمامي عائقاً لا يصح المرور عنه ولا تجاوزه من دون تطويعه.
كتابة الرواية أمر في منتهى البساطة والتعقيد معاً، بسيطة لأننا نكتب ونحن نلاحق حدساً نحاول الإمساك به، ومعقد لأن الطريق إليه غير واضح، ولا منار بشكل جيد، علينا دائماً أن نستعين بالنور الداخلي لهذا العالم الذي نعيش فيه.
* ـ هل تتقصد أن يعيش قارئ رواياتك حالة من القلق، كما حدث معي أثناء قراءتي لأعمالك بشكل عام، ولاسيما الأخيرة منها؟
لا أتقصد على التأكيد وضع القارئ في حالة قلق، أو إثارة. لكن لا بد من القول إنني أنقل قلقي إلى القارئ، وأصيبه بعدوى ما أصابني. لا قراءة ولا كتابة مهمومة بالوضع البشري تنجو من هذا القلق ولا من تلك العدوى. ولا أعتقد أن أي كاتب حقيقي يكتب برؤوس أصابعه، الكاتب ليس أنه مغموس بما يكتبه، بل غارق فيه، إنه أشبه بمن يطلب النجدة، الكتابة تنقذه، هذه الحالة قد تدفع القارئ أيضاً إلى الغرق في ما يقرأه.
من جانب آخر، يبدو أن الموضوعات المقلقة تفرض نفسها على الكاتب، وإذا شعر القارئ بالقلق، فلأن الأمر بات يعنيه هو أيضاً.
أحاول عادة خلق صلة بين روايتي والقارئ، لذلك يلهث الكثيرون وهم يتابعون الأحداث في رواياتي، يردها البعض إلى التشويق، أو الحبكة المحكمة، أو الأجواء المتوترة، والأجواء البوليسية…الخ، أنا أردها إلى متابعة المصائر.
* ـ : يلاحظ اتجاه في الرواية الجديدة السورية نحو الغوص في المحرمات الجنس والسياسة.. هل تراها موضة أم ضرورة؟
إنها ضرورة، تُستغل على أنها موضة، وقد يجري الانحياز إلى أخرى غيرها، حسب الرائج. هؤلاء الذين يركبون هذه الموجات، متقمصو موضات عابرة.
بالعودة إلى المحرمات، أو أية موضوعات أخرى، لابد من الشعور نحوها بالمسؤولية؛ مسؤولية الكاتب ليست بالأمر الهين، حتى وهو يلهو بها، أو يسخر منها، أو يُجرِّحها. كل هذا ينطلق من إحساسه إزاء متطلبات الواقع والتباساته. المسؤولية الأكبر إزاء ما يعتقد أنه الحقيقة، وهي ليست أكثر من فرضية. عندما يكون الاقتراب منها هو مجموعة فرضيات قد تصيب أو تخطئ. على الكاتب أن يكون صادقاً مع الآخرين، ومخلصاً مع نفسه.

* ـ هل تستطيع القول بان فواز حداد ينتمي للرواية السورية الجديدة أو للرواية العربية الجديدة مثلاً؟
أنتمي للرواية السورية والعربية والعالمية. هذه انتماءات لا تقبل الانفصال، نحن لا نكتب في فراغ. وكل هذا يصب في النهاية في فضاء واحد: الرواية الكبرى للحياة والبشر. وهذا لا يعنيني وحدي، بل يشير إلى الروائيين السوريين عامة من دون تخصيص.
* ـ بالتالي ما هي سمات الرواية السورية أو العربية الجديدة؟

إنها امتداد لجيل الرواية السابق من طرف، ومن طرف آخر إضافة إليها، مع أنها تحاول التخلص مما أثقل الرواية سابقاً من موضوعات كانت لا تزيد على دعايات وادعاءات، من حسن الحظ هذه الروايات اختفت لأنها كانت تكتب بموجب تعليمات سائدة متفائلة جداً، واثقة من نفسها، الطريق واضح، وكأن كل شيء متفق عليه، شيء ما أشبه بخريطة طريق، لا فضل لروائي على آخر إلا بتمثل هذه التعليمات بشكل أفضل، والتعبير عنها بشكل أقوى.
غير أن الحياة تمضي على غير هذا النحو، لا مسلمات فيها، ما ينعكس بشكل طبيعي على الرواية. إذ هي في أحد وجوهها كشف واكتشاف، ومحاولات للنهوض والتقدم والتعثر، ولتلمس الطريق والغوص في المجهول. التعليمات القديمة كان متفقاً عليها، وهذا ما أساء إلى الرواية وجعلها تراوح في مكانها، وأنقذها بضعة روائيين كبار أمثال نجيب محفوظ والطيب صالح وحنا مينة….
*ـ : هل تعتبر ترشيحك لجائزة ” بوكر” العربية عن ” المترجم الخائن” اعتراف بالرواية الجديدة..أم أن الموضوع فرض نفسه ؟
بلا شك أغلب الروايات التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر، كانت اعترافاً بالرواية الجديدة التي تكتب حالياً في المنطقة العربية، “المترجم الخائن” لم تكن استثناء، كانت من هذه الموجة، مع الاحتفاظ لكل رواية بما يميزها عن غيرها.
بالطبع لا يمكن الحديث عما يسمى رواية جديدة، من دون العودة إلى الواقع وكيفية التقرب منه، لاسيما من ناحية الرؤية الأكثر موضوعية، وهذه لها حصة كبيرة في تثبيت دعائم هذه الرواية.
*ـ ما رأيك بالضجة التي أثيرت حول الجوائز العربية، ومنها البوكر؟
الأسوأ في الجوائز، اختلاقها منافسة غالباً هي غير عادلة، وهذا من طبيعة الأدب نفسه، إذ لا معايير علمية دقيقة تضبطه. هذا عدا ما تتعرض له الجوائز من ضغوط، لاسيما في منطقتنا العربية، سواء من دول تعتقد أن لها الحق في الاستئثار بها، أو دول تستغل ثقلها المادي، وأحياناً لأسباب سياسية، أو جغرافية، غير أن الجدارة ينبغي أن يتحلى بها العمل نفسه.
الجوائز اليوم موضوعة على المحك، وكل جائزة لا يُدافع عنها سوى ما تحققه من نتائج. إن تقيدها بالأهداف والغايات النبيلة التي وضعت لها هو الدليل على مصداقيتها، وعلى أيضاً ضرورتها.