القراءة ليست نعمة دائماً بل نقمة أحياناً، ليس على الفرد بحدِّ ذاته، وإنّما على الحياة والبشر والمستقبل. ما يشكِّك في ما جرى التعارُف عليه من أنّ القراءة تزيد الإنسان ثراءً، كما يُمكننا البرهنة على الكوارث التي أدّت إليها.

يصحّ هذا القول، بالعودة إلى التاريخ القريب، فقد قدَّم باحثون أمثلة رهيبة عن زعماء، ارتدّت قراءاتهم وكتاباتهم على البشر بأشدّ الويلات. لن نعود إلى الخلف كثيراً، ففي القرن الماضي ظهر ستالين وهتلر وموسوليني، عُرِفوا كقارئين مُجدّين وكتبوا في الفكر والسياسة، ويعود ما اصطنعوه من أيديولوجيات إلى عُصارة أفكارهم، فأخذت الشيوعية من ستالين طابعها في زمانه، كما كانت النازية والفاشية في الزمن نفسه مدينةً إلى هتلر وموسوليني.

عن تأثير القراءة، يمكن القول، لو لم يتعلّم ستالين القراءة، ويُدمن عليها، لمَا كان الطاغية الذي نعرفه، فقد كان “دودة كتب”، يقرأ ما لا يقلّ عن مئتَي صفحة يومياً، ويضع تعليقات وهوامش على ما كان يقرأه من مختلف أنواع المعارف. كان مُغرماً بالتاريخ إلى حدِّ أنّه تماهى مع شخصية القيصر إيفان الرهيب، وتفوّق عليه بالوحشية. قرأ كتباً لمُنافسيه زينوفييف وكامنييف وبوخارين وأعدَمهم. أمّا تروتسكي، فلحِقَ به إلى المكسيك واغتاله. كتبَ ستالين الكثير من الكتب والكرّاسات، من أهمّها: “المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية”، و”أسُس اللينينية”، و”الماركسية والقضية القومية”.

ارتدّت “قراءات” بعض الزعماء بأشدّ الويلات على الناس

لنفترض أنَّ أمَّه لم تُرسله إلى المدرسة، كان سيصبحُ مثل أبيه مُدمناً على الكحول، أو رجلَ عصابات يعمل في التهريب. ما كان تعلَّمَ القراءة واكتشف أعمال ماركس وإنغلز، ولم يطّلع على كتابات لينين. وربما ستكون الاشتراكية على ما يرام، لولا أنّ روسيا وقعت تحت قبضته. لكنْ لا ينبغي التفاؤل كثيراً، كان المرشح لخلافة لينين على الأغلب تروتسكي، وكان قارئاً مُجدّاً ومنظّراً رهيباً هو الآخر. النتائج لن تكون أحسن في ترسيخ الدولة الشيوعية، سيضحّي بأعداد هائلة من الشعب، لن يقلّ دموية عن ستالين. حسناً، لولا القراءة، فربّما تغيَّر العالَم نحو الأفضل، أو على الأقل لن تزهق أرواح الملايين.

في الواقع، كان القرن العشرون من أسوأ القرون، ولم يكن لتحدُث حرب عالمية ثانية لولا هتلر وموسوليني، هما الآخران يقرآن الكتب، هتلر كتب “كفاحي”، مُسجّلاً طموحاته التي كادت أن تتحقّق لولا أنه انتهى مهزوماً ومُنتحراً، بعدما نشر الخراب في نصف العالم. أمَّا موسوليني فأراد استعادة أمجاد الإمبراطورية الرومانية، لولا الثقافة التي حصلا عليها كلاهما، لكان الأول دهّاناً وفي أفضل الأحوال رسّاماً مجهولاً، والثاني شيئاً من هذا القبيل، وعاش العالم بسلامٍ في القرن الماضي.

كذلك الزعماء العرب لم يقلّ فعل القراءة فيهم عن زعماء الغرب. فالليبي القذافي أظهرَ أيضاً “موهبة فكريّة” في كتابه: “الكتاب الأخضر”، اعترفَ به مفكّرون عرب وأجانب، وشارَك العراقيَّ صدام حسين، “طموحاً” إلى الرواية، وأصبحا من عِداد الروائيّين في العالم العربي. لو امتدّ بهما العُمر، وتبارَيا مع غيرهم من الروائيّين المعروفين، لشهدنا إعدامات ومشانق واغتيالات تُصيب منافسيهم، وحصدا الجوائز كلّها.

للقراءة حدّان، فهي مفيدة للبشرية كما أنّها مفيدة للمجرمين

أمَّا السوري حافظ الأسد، فالسؤال، ماذا لو لم يقرأ وهو في المدرسة “المنطلقات النظرية لحزب البعث”، أو ما يُشبهها، هل كانت خُطاه ستقوده إلى الكلّية العسكرية، ويقودُ أكبر عملية استقرار في سورية، قاربت أن تقضي على الحياة فيها، ولا تُبقي أخضر ولا يابساً، كما حماة في زمانه؟ ما تركه وراءه كان تحت تأثّر قراءاته في التاريخ العربي، لم يجد في الفتوحات أمجاداً، كان أكثر ما أثّر فيه هو التوريث، فاتّخذه منهجاً على أمل أن يحكم سورية من القبر، وهكذا كان. أمّا الوريث، فلم يقرأ سوى التقارير التي ترفعها الأجهزة الأمنية، فقتَل مليون سوري، وقام بتهجير ثمانية ملايين، وتدمير نصف سورية، وما زال العمل سارياً على إفقار السوريين وتجويعهم. احتياطاً، باشرَ بإعداد الوريث المُقبل، “عبقري الرياضيات”، للمهام المرصودة له؛ سيُكمل خطّة تخدير دول المنطقة بالكبتاغون، وبعدها تحشيش العالم الديمقراطي الصامت عن جرائم القراءة الشريرة.

إلى هنا، وانتهى الكلام عن لعنة القراءة، لن نزيد. للتوضيح، الكتب غير مسؤولة، وليس ذنبها أنها تنمّي الوعي، وإن كانت أحياناً نادرة باتجاهات خاطئة ومدمّرة، وإيجاد الذرائع للاحتيال على الشعوب، وتبرير أسوأ ما يفكّر فيه إنسان؛ التآمر والقتل والتعذيب والإخفاء القسري. لا يعني أن الأفكار تقتل، وإنّما من يفكّرون، أيّ بماذا يفكّر هؤلاء الحكماء صانعو الجرائم الجليلة؟

لا يُخفي هذا المقال قدراً لا بأس به من المزاح المُستهجَن، وإذا كانت القراءة قد انعكست علينا بشكلٍ تراجيدي، فما أشرنا إليه لا يخلو من الجدّ، من ناحية أنَّ هناك من يوظّف المعرفة في ابتداع الشرّ، ولا ننسى أنّها ذريعة يتحجَّج بها المثقّفون لإخفاء تمسّحهم ونفاقهم للسلطات، بمعنى ما، إنَّ القراءة ذاتُ حدين، فهي مفيدة للبشرية، كما أنّها مفيدة للمجرمين تمنحهم الحجج ذريعة للاستبداد.