مهما طرأ على القصّة الفلسطينية من تقلُّبات، لن يعسر فهمها مهما تعقّدت. بالنسبة إلينا نحن العرب، القصّة لا تحتاج إلى الكثير من الشرح، وإنْ باتت لدى البعض تُفهَم على نحو مُغاير تماماً، بذريعة التطبيع بدعوى حسابات عقلانية لمستقبل مُزدهر.

ببساطة، لا تزيد القصّة عن شعب جُرِّد من أرضه وحلَّ محلّه قادمون من الخارج، بدعمٍ لا محدود من الغرب بالسلاح والمُساعدات والمقاتلين، واحتلُّوا بلداً، بدعاوى مختلفة، الواقعية منها، وأنهم لاقوا من شعوب أوروبا قروناً من الاضطهاد والإذلال، كانت ذروتها في “الهولوكوست”، كانوا شعباً غير مرغوب فيه. أمّا الدعوى التي لها صلةٌ بالتوراة والخرافات والأساطير، فهي أنهم “شعب الله المُختار”، قد أقطعه الإله أرض فلسطين وما يزيد عنها، وفي بعض الخرائط: “من الفُرات إلى النيل”، وتجد صهاينة علمانيّين يؤمنون بها عن قناعة ودهاء.

لم يُكن هُناك عائق في هجرتهم إلى أميركا وبلدان آسيا وأفريقيا، لكنّهم اختاروا فلسطين الواقعة داخل الإمبراطورية العثمانية، أو “الرجل المريض”، حسب التوصيف الاستعماري. وربّما قاسموا الفلسطينيّين أرضهم، لكنّهم من العِرق الأبيض، ولا يطيب لهم التعايُش مع عُروق أدنى منهم، فالإحساس بالتفوّق وهبَهم أسوأ خصلة، وهي الغطرسة والحماقة، لمجرّد أنّهم قادمون من بُلدان متحضّرة، ولو كانوا فيها منبوذين ومطرودين منها. وهي بُلدان أثبتت “تحضُّرها” بحربَين عالميّتين، فكان للقوّة دليلٌ لا يُدحض على إمكانية نَهب أرض الآخرين بالقوّة نفسها، واستطاعوا ترسيخ وجودهم في فلسطين بالمجازر، وكان بكلّ جلاء تطهيراً عِرقياً.

خلق الأميركي “إسرائيل”، ويحميها اليوم بالسلاح و”الفيتو”

ليس أنّ الغرب لا يعلم، بل كان على اطّلاعٍ برَّره بأنّ الشعور بالذَّنب أملى عليهم عدم ملاحقتهم بالكراهية إلى “أرض الميعاد”، فسكتوا عن جرائمهم. ولمزيد من حُسن النِّية، كان الدعم كاملاً، حتى أنّ السردية الأسطورية توارثها معهم الغرب، ومنهم سياسيّون، وحكومات، وشعوب، على أنها عودة إلى أرض بلا سُكّان، لكنّ العرب نازعوهم عليها، هذه النسخة الإسرائيلية من الصراع العربي الإسرائيلي، أي ما ندعوه بالقضية الفلسطينية.

بلغت طمأنة الغرب للصهاينة الصمت عن المزيد من التوسّع واحتلال المزيد من الأراضي. واعتُبرت “إسرائيل” جزءاً من حضارة الغرب، ما ربط مصالحها بمصالحهم، وشكّل ضمانة في عدم تعرّض مستوطنيها إلى تشريد آخر، ما اضطرَّ الغرب لمساعدتهم على تحقيق انتصارات مُدبَّرة ضدّ العرب. وأصبح الوضع الطبيعي هو التوسّع الدؤوب مع القمع المُستمرّ للشعب الفلسطيني، الذي ابتدع في المقابل مقاومة لا تقلّ عن ثورات وحروب وانتفاضات.
إزاء تجدُّد الصراع من فترة لأُخرى، ومقاومة لا تخمد، بدا لبعض السياسيّين والباحثين في الغرب أن هناك شيئاً غير مفهوم، فقد لاحظوا وجود شعب فلسطيني، تعتبره الصهيونية غير موجود، بناء على “الحقّ الإسرائيلي المُطلَق منذ الأزل”، من دون القبول بأيّ مُناقشة حوله. لكن سيضطرّ المنظّرون الإسرائيليّون إلى التصدّي للمحاولات الخارجية لانتقاد سياساتهم، والتعبير عن صدمتهم من الأجانب الذين لم يتفهّموا، أو لم يستطيعوا فَهْم هذه الحكاية التوراتية.

لم تكن مُقنعة، لأنّها لم تفلح في حّل نزاع واقعي، سندُه غيبي، إلّا إذا قبلوا وجهة النظر الإسرائيلية من دون اعتراض. ما اضطرّهم إلى اللجوء للمنطق الأكثر إقناعاً، بصرف النَّظر عن الوعد الخُرافي، وهو أنّنا – نحن الإسرائيليين – نُمثّل الطرف المُتحضِّر والعقلاني في النزاع، ما يخوّلنا احتكار الحلّ لأنّ هذا الصراع يقعُ في عالَم عربي عاجز، غير متحضّر وانفعالي غير قادر على التفكير.

لم يؤمن الصهاينة وحدهم بالأسطورة، بل نُخب الغرب أيضاً

طبعاً، علينا ألّا ننسى أن هذا الابتكار الإسرائيلي ساهم فيه، إلى جانب الدعايات الإسرائيلية، بعض العرب المُغرمين بجَلْد الذات، بالمساهمة في تأكيد التخلّف العربي. كان المُنادون به علمانيّين عرب ويساريّين متشدّدين، ادّعوا عن عقلانية غبيّة صوابية هذا الاتّهام، وحملوه على عاتقهم بجُرأة حتى اليوم، وكأنّ الحقّ الفلسطيني لا حلّ له إلّا إسرائيلياً.

تطوّعت أميركا لتكون الوسيط المُحايد في مقاربة القضيّة الفلسطينية، فكانت أسوأ وسيط، فلم تحصد عملية السلام بجهودها إلّا المُماطلة والتضليل، لم تُفضِ إلى نتيجة ولا سلام. الأميركيّون تجاهلوا لُبَّ المشكلة.

لن يكتفي الأميركيّون بالتجاهُل، تقدّموا خطواتٍ واسعة ضدّ أيّ حلّ، ففي الحرب الدائرة اليوم في غزّة، شاركت أميركا فيها باعتبار الحرب عملية مُشتركة مع “إسرائيل”، حتى أن الرئيس جو بايدن بملامحه الجامدة اللّامعة، يتكلّم ويتحرّك كالروبوت، كأن ما يتلفّظ به مبرمجٌ تحت سقف المزاعم الإسرائيلية. بل زاود عليهم، فادّعى بأنه لا يحتاج أن يكون يهودياً حتى يتصهين، ولو لم تكن “إسرائيل” موجودة لتوجّب على الولايات المتّحدة أن تخلقها، إنها الاستثمار الأميركي الأهمّ والأثمن على مرّ القرون. لم يكن الوسيط الطيّب إلّا وسيطاً مُخادعاً. وبلغ الشرّ به أنّه وحده استخدم “حقّ النقض” ضدّ قرار “مجلس الأمن”، الذي يدعو إلى وقف فوريٍّ لإطلاق النار.

وإذا استعنّا برؤية دنيس روس، الدبلوماسي الأميركي الذي ساهم بدورٍ بارز في تشكيل سياسة الولايات المتّحدة في الشرق، وانخرط في “عملية السلام”، وأصبح ضليعاً بها، كان من جملة انتقاداته على عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ترديد الأكاذيب عن احتفال مُقاتلي “حركة حماس” بتعذيب الإسرائيليّين والاستمتاع بقتلهم، واتّهمَهُم بالانحلال الأخلاقي والتجرُّد من الإنسانية. كما انتقد الأمين العام لـ”لأمم المتحدة” أنطونيو غوتيريس، على قوله، إنّ ما حدث لم يأتِ من فراغ، لأنه يمُكن أن يَشي بأن ما فعلته “حركة حماس” كان مقبولاً.

للأسف، كتب دنيس روس ما لا يقلّ عن ثلاثة كتب حول “عملية السلام”، وكان يدّعي بأن التعايُش مُمكن بين الشعب الفلسطيني ومُحتلّه الإسرائيلي. فإذا به يخلُص إلى أنّ الاحتلال لا يُمكن أن ينتهي إلّا بطريقة تتّفق مع أمن “إسرائيل”. لكن ماذا عن أمن الشعب الفلسطيني؟ هذا الدبلوماسي ليس مُصاباً بالعمى، لكنّه يتعامى، وليس لأنه لا يعرف إنما لأنه منحاز.

هناك بصيصُ أمل في قصّتنا الفلسطينية البسيطة يُشير إلى أن الغرب لم يعُد مُنصاعاً لـ”إسرائيل” وحلفائها كُلّية، ونلمحه في تلك الأصوات الشابّة من الناشطين الجُدد الذين اكتشفوا فلسطين في العدوان المستمرّ على غزّة، وأصبحوا معنيّين بها، ولم يعسُر عليهم معرفة أن “إسرائيل” جريمة ضدّ الإنسانية، وأنّ لُبَّ المُشكلة أن الإسرائيليّين يسكنون أرضاً ليست لهم، إنها أرض فلسطينية يسكُنها فلسطينيّون، ولا يمنح قانونٌ في العالَم أو منطق الحقّ لمُجرم بأن يستفيد من جريمته.

لم نتطرّق إلى المقاومة، فالعالَم كلّه شاهد.