لا يقلّل أبداً أنَّ الأدب قد تجاوز بتأثيراته العصور – كإنجاز بشري خالص – مع أنه ليس ديناً ولا عقيدة، وهي ميزة لا تمنع المساس به، وليس من الغلو تكريمه والاعتراف بعبقرية أدباء يشكّلون الذخر الرفيع للإنسانية. هذا الاعتراف، لا يمنع من أن يصيبهم رشّاش النقد إلى حد إغفال أية قيمة لهم، وأن يطاول بعضهم كأشخاص، ولا يطاول أعمالهم. لا يأتى هذا النقد من قرّاء عاديّين، قد لا يميّزون الأدب الرفيع من الأدب الرقيع، بل من نقّاد يعتبرون الأدب للمتعة والتفكير معاً.
ما أُسبغ على هؤلاء الأدباء ليس مديحاً مجانياً، ولا تقديراً جزافياً، بعضهم فارق الحياة قبل قرون، وتوافق النقّاد والدارسون من أجيال وبلدان مختلفة على أهميتهم التي تجاوزت زمانهم. ففي النظر إلى أعمال شكسبير، لم يكن هناك خلاف حول مسرحياته التي أدّت إلى تعميق نظرتنا إلى الحياة، ودلّ إلى معرفة لافتة بالطبيعة البشرية. كان مبعثُ الانتقادات استغراب الباحثين عدم تلمُّحهم شخصية شكسبير في أعماله، فحياته يشوبها الغموض، كأنه تقصَّد حجبها عن مسرحياته، وإن قال بعضهم بأنه عبّر عن عالمه النفسي في سونيتاته، وهو أمر لا يمكن التيقُّن منه.
المحيّر أنهم حين أمعنوا النظر في حياته، كانت محدودة، ولا تشكّل مصدر هذا النتاج البديع والرائع، خاصّةً أنّ مسرحياته تكشف عن عبقرية، لا تُلهمها حياته، ولا تجد فيها سنداً لها، ما أدّى إلى عدم نجاة مسرحياته من النقد. حسب برناردشو، لا تستحقّ كل هذا التبجيل وباستطاعته أن يكتب ما يضارع نتاجه كلّه ويتفوّق عليه خلال بضعة شهور. وإذا اعتبرها البعض مزحة من برناردشو الساخر، لكنّه قالها جاداً.
للنقّاد أمزجة، كما أنّ للقرّاء آراؤهم المختلفة والمتناقضة
إذا كان شكسبير يقف على قمّة الأدب المسرحي، فان سيرفانتس يقف على قمّة الأدب القصصي، فروايته “دون كيشوت” تُعدّ من روائع الأدب العالمي. وما زالت بعد مرور لا أقل من أربعة قرون من كتابتها تتربّع على القمة، وتُعتَبر أعظم عمل روائي في تاريخ البشرية، رواية مبشَّرة بالخلود، وبمعنى آخر، رواية لا تموت ولا تشيخ، تُعبّر عن نضال الإنسان في عالم متوهَّم، ترمز إليه في اجتراحه بطولة لم تكن سوى شَنِّهِ هجوماً عبثياً على الطواحين الهوائية، فالإنسان أسير تخيُّلاته وحماقاته وما يتصوّره. وفي الواقع لا تنطوي على هذا المغزى فقط، بل تثير عشرات الأسئلة، والخوضُ فيها خوضٌ في بحر زاخر بالمعاني الخصبة.
ليس “دون كيشوت” عملاً واحداً، ولا سرفانتس أديباً متفرّداً، خاصةً أنّ بعض النقّاد لم يوفّروا الرواية من الانتقاد بأنها رواية عن زمن الفروسية، تسخر منه، لكن ماذا عن زمن بلا فرسان وخال من الطواحين الهوائية؟ مع أنّ زماننا لا يشذ عن ذاك الزمن، بل استفحلت فيه الطواحين، مع تكاثُر الفرسان الكاريكاتوريين، يتخفّون وراء دكتاتوريات تافهة.
بينما أضاء تولستوي في روايته “الحرب والسلام” بانوراما هائلة عن فعل الحروب في البشر، كانت عن إنسانية تواجه شرورها، وتحاسبها على حياة وقعت في الخراب، على إيقاع الموت، كان من الممكن إثراؤها بالخير والسلام، رغم أنّ القرّاء اشتكوا ممّا أصابها من تطويل، وما حفلت به من حوارات ومناقشات فكرية أثقلت الرواية. وإذا كان النقّاد لم يقلّلوا من أهميتها وأجمعوا على أنها عمل خالد، لكن نقّاداً كـ هارولد بلوم وتيري إيغلتون كان رأيهم أنّ رواية تولستوي “الحاج مراد” الأفضل بين رواياته، بل أفضل رواية في العالم، ولم يكتم جيمس جويس إعجابه بآخر نص كتبه تولستوي بعنوان “كم من الأرض يحتاج إليها الإنسان؟” على أنه أجمل قصة كُتبت في التاريخ.
في الواقع لا تضعنا هذه الانتقادات أمام استعصاء، فالواضح أنها آراء شخصية، فللنقّاد كما للكتّاب أمزجة، لا تضير الروايات، كما أنّ للقرّاء آراؤهم المختلفة والمتناقضة، خاصة إذا أدركنا أنّ القارئ متطلّب من ناحية أنه يحب أو يكره تبعاً لما يهواه، فالقرّاء عادة يفضّلون الروايات صغيرة الحجم، على ألّا تزيد عن مئتي صفحة، وأن تكون غير مرهقة فكرياً، تحفل بالمغامرات، وتتميّز بالخفة والطرافة.
لا تقتصر هذه الآراء عليهم فقط، فمهما بلغ الكاتب من العبقرية والإخلاص، لا نجاة من النقد، تنسحب على الكثير من أعلام الرواية كـ دستويفسكي وبوشكين وغوغول وتورجنيف وجويس وبروست، مع أنّ كلّاً منهم أثرى الأدب العالمي بما بات لا يُستغنى عنه في مسيرته، ولا يُفرّط به النقد، ما منحوه كان أفضل ما صنعه الأدب. لو تصوّرنا عالمنا من دونهم، لكان هؤلاء الذين يتربّعون في الأخبار اليومية، من صانعي الحروب والاستبداد، عالَمنا البائس.
فطوبى للذين يصنعون الأمجاد الحقيقية التي تزهو بها الإنسانية.
-
المصدر :
- العربي الجديد