تواجه الرواية العربية في هذا الزمن المضطرب، أسئلة تتعدى ما اصطلحت على التعامل معه والخوض فيه، بعدما أصابها، بالمقارنة مع ما يجري، التسيب والاستسهال مع الكثير من الرفاهية في طرح الإشكاليات، ومخاطبة الجديد والانخراط فيه. ما شهد اتفاقاً مضمراً بين الأدباء، بلا خلافات جدية، على عدة قضايا تهم الرواية؛ فأدلجة الأدب باتت في حكم المرفوض، والتحلل من المصائر المشتركة، والتخفف من الاهتمام بالقضايا الجامعة، بل وأصبحت مدعاة للسخرية، ما الذي يجمع بين أضداد، مهنتهم تحبذ التنوع إلى حد التشظي؟

كان هذا بعد عقود حاولت فيها الرواية مجاراة عصرها الأيديولوجي في تغييرالعالم، بفبركة أبطال ثوريين، ومناضلين لامبالين، أنقياء ثورياً؛ ما عزز الاعتقاد بأن للأدب عصا سحرية تقلب العالم رأساً على عقب، أقنعت الحالمين باحتلال العبيد مكان السادة. وكانت اليقظة مخيبة على السادة الجدد الذين شددوا الخناق على التساؤلات المتحررة من الارشادات الموجهة. فانهمكت الرواية العربية في التاريخ متوسلة المشاهد الكبيرة، أو معرجة على الإنسان وتفاصيله العاطفية الصغيرة. وسواء ذهبت في محاولاتها بعيداً إلى الوراء أو عميقاً في الداخل، فقد كان سعيها لولوج الحاضر، مأزقها المستعصي.

انتقلت الرواية بعدها إلى مقاربة الجسد والشهوة، واكبها الجرأة في التجريب، فتخبطت في استعارات غربية من زمان آخر ومكان آخر، أثقلت بتضخم الأنا وافتعال الإدهاش وإقحام الفجاجة، مع لغة مترهلة بشعرية خفيفة ومائعة. ومع هذا نجحت في جعل الرواية تعبر عن اختناق الحاضر ورثاء المستقبل قبل أن يلوح. من جانب آخر، شهد الانكباب على الجسد، ثراء لافتاً، بعودة المطحون اجتماعياً إلى التمتع بشخصية متفردة، لديها إشكالاتها السرية والنوعية، وخرائطها المستقبلية.
بدا الأدب واعداً بالكثير، إذ بدأ يشق طريقه فوق أرض ثابتة.

مع الثورات العربية اكتشف الكاتب أن الأرض على خلاف ما اعتقده، لم تكن ثابتة، والربيع ليس ربيعاً، بل شتاء عاصفا؛ الثورات أخرجت مكبوتات جرى انكارها والتخفي عليها، من دون تبين مآلاتها الكارثية. لأول مرة يدرك الكاتب أنه يقف فوق أرض الرعب، بلا أحلام ولا أوهام. الحقيقة الوحيدة كانت الجهل، ما أدى إلى مفاجآت تفوق خياله: الكراهية والأحقاد والجنون وسياسات الأكاذيب… إن كل من يقول إن الأدب توقع أو تنبأ أو حذر، ليس إلا ادعاء، لا أحد خطر له كل هذا الهول الذي لم يأت من الخارج، كان في داخل حدود الوطن، ومسكوتاً عنه. تجنبت الرواية كل ما كان عليها أن تراه، واكتفت بالزعيق والتكهنات والعموميات. اليوم لا مفر من التعرف إلى واقع هيمن عليه الرصاص والقنابل والمجازر، المتوافق على جريمة واحدة… قتل البشر والوطن. وإدراك أن مواجهة كل ما تفادته في رحلاتها التائهة، قد ارتد مخضباً بالدماء. وما اختبأ وتراكم، كان ينغل في جسد مكدود يحاول النهوض، وأفلح في احتلال الحاضر، وقد يكون المستقبل.

لا ترى الرواية أكثر، ولا تخترق الحجب، إنها مغامرة دائمة، عمياء تارة ومبصرة تارة أخرى، وإذا كانت تقاتل عن حق أو عن باطل، فلكي تحطم الأبواب المغلقة، لا يكف الروائي عن ارتيادها، هي أداته الوحيدة ليقول ما يعتقد أنه الحقيقة. مدركاً أن لديه مهمة، ليست حزبية ولا سياسية، تتلخص في محاولة التعرف إلى عالمه، ربما ساعد نفسه والآخرين على العيش، وإدراك أن الحياة ليست معاناة فقط، ومن الممكن تحملها، وربما التمتع بها، لكن طالما هناك من يعتقد أن المتعة في السلطة والتسلط والقتل، فلا بدّ من الرواية.

أسئلة الرواية هي أسئلة الحياة والموت والعيش والحب… قد لا نشعر بالراحة أو الاطمئنان في عالمنا هذا، إذ أننا مجبولون على التساؤل، ولا نبلغ الحقيقة، ربما اقتربنا منها، لكننا سرعان ما نبتعد عنها، إذ لا حقيقة إلا في المضي في المحاولة؛ الجدوى الوحيدة في الحياة، وإن كانت من غير عزاء ملموس، غير أن غوايتها أكثر إغراء من أي منحة.
هذه هي الكتابة، حياة أخرى، إضافية، شيّقة مثلما هي مؤلمة.