يُمثّل رؤساء “اتحادات الكتّاب والأدباء”، الذين زاروا دمشق مؤخّراً، طائفة تُعتبر، بشكل من الأشكال، من مثقّفينا العرب، فالوفد يمثّل اثني عشر بلداً عربياً، يمكن النظر إليهم على أنّهم النموذج المعتمد الغالب للثقافة الرسمية السارية في المنطقة، لا ندري ما المجال الذي يحتلونه في بلدانهم، ويهيمنون عليه، لكن لئلّا نبالغ ليسوا سوى فريق يمثّل سلطة ثقافية شائعة.

اللافت أنّ هؤلاء المثقّفين لم يسمعوا عمّا جرى في سورية طوال أكثر من عقد، وإذا سمعوا، فقد اختاروا النسيان أو الإنكار، طالما لديهم كما يبدو الذرائع لتجاهل مليون قتيل، وخراب ما يعادل نصف البلد، وآلاف المعتقلين والمغيَّبين قسرياً في السجون والمعتقلات، وملايين النازحين والمهجَّرين. وبما أنه أُتيح لهم القيام بزيارة سياحية إلى دولة الأسد المفيدة، فقد مشوا فوق رفات قتلانا، ولا بد أحسّوا بالأمان في العاصمة التي تتحكّم بها الأجهزة الأمنية. أمّا الضمانة لشعورهم بالاطمئنان، فكان في احتلال البلد بكامله من خمس دول كبرى وإقليمية.

ليس هناك أيّة مشكلة في هذه الاحتلالات؛ إذ لا علاقة لها بالاستعمار، إنّها تحتل مناطق نفوذ، جرى الاتّفاق بين المحتلّين على ألّا يحدث أي صدام بينهم حرصاً على سلامتهم، ولو أنّ إحدى الدول المحتلّة (إسرائيل) تقصف نظيرتها المحتلّة (إيران) في أرجاء الأراضي السورية، كما أنها ميادين قتال مفتوحة لقصف الفصائل الإسلامية و”الجيش الحر”، لا تقتل سوى المدنيّين والنازحين في الخيام.

لو أنّ وفد الكتّاب عرّج في جولته إلى الأرياف، أو المناطق المهمّشة القريبة، فسوف تُطالعهم مظاهر قد لا تصادفهم في أيّ بلد في العالم بهذه الكثافة من الدمار في مناطق باتت غير مأهولة، بعد ترحيل أهاليها. أمّا المأهولة بالسكّان، فبلا كهرباء، ولا غاز، ولا بنزين، ولا خبز… غلاء فاحش، وأسعار تتصاعد. سوف يرَون مظاهر الفقر والجوع رأي العين. ولن تفوتهم مواكب من البشر ينتظرون الباصات، أو أمام الأفران ومحطّات الوقود. وطبعاً دائرة الهجرة والجوازات، لماذا؟ كي يحصلوا على جواز سفر، يسعون إلى أيّ بلد يهاجرون إليه.

إن سمعوا عمّا جرى في سورية، فقد اختاروا الإنكار

وربما لم يغادر الكتّاب فندق الخمس نجوم، قضوا الوقت في ربوعه، أو في قاعات تحدّثوا فيها مطوّلاً عن صمود الشعب السوري، وشكروا إيران على مواقفها الداعمة. كما شكروا بوتين على إنقاذ النظام في آخر لحظة، تناولوا الغداء وربّما العشاء أيضاً في المطعم الروسي، ثم شدّوا الرحال إلى القصر الجمهوري لسماع محاضرة الرئيس الذي نبّه وفد المثقّفين الغافلين إلى أمر لا يُستهان به، ويعاقَب عليه في سورية المناضلة، وهو ألّا علاقة بين الثقافة والسياسة، الثقافة للمثقّفين، والسياسة للسياسيّين. طبعاً تتلخّص السياسة في سورية الشقيقة بشخص واحد هو الشخص الذي يُلقي عليهم تعليماته، وهو درس بليغ يجنّبهم في بلدانهم مجازر وحرباً قد تأخذ سنوات طويلة من القصف والموت.

وما يستدعي التفاؤل ألّا خلاف مع طروحات المُحاضر، فالوفد الفلسطيني الذي لا ينسى فلسطين، نسي “فرع فلسطين” المختصّ بالتحقيق مع الفلسطينيّين وإزهاق أرواحهم، ولم يستوقفه دمار مخيّم اليرموك، ولا تهجير سكانه. كذلك أعضاء الوفد المصري، وجدوا في المُحاضر بلاغة لا تقل عن بلاغة رئيسهم السيسي في حلّ المشاكل بطرفة عين، كذلك كلُّ وفد وجد صدىً لما يجري في بلده، واعتبر التجربة السورية في القمع تستحقّ أن تُحتذى، ما يوفّر على بلدانهم ربيعاً جهنمياً. وكم كان المُحاضر مسروراً من تثمين تجربته الرائدة عندما سمع منهم أنّ “انتصار سورية هو انتصارٌ للأمة برمتها”. فبدا وكأنّ الأمة العربية أوكلت إلى المُحاضر الردّ على الربيع بالموت الزؤام.

لم نطلق على الرئيس سوى لقب المُحاضِر، والسبب هو أنّه كان يخوض غمار حوار ثقافي وفكري وسياسي مع “نخبة مختارة” من المثقّفين العرب، وإذا كان، عندما تكلم في الأمور السياسية، لم يتجرّأ أحد على مناقشته، فالسياسة في سورية تعني التعذيب حتى الموت والإعدامات الميدانية وتعليق مشانق وسلخ جلود واغتصاب نساء ومحاكمات صورية ومقابر جماعية وقتل لمجرّد القتل، فالبلد مزرعة لعائلة تتصرّف برعاياها كما تشاء، بينما المستمعون الذين بالغوا بإصغائهم، من شعراء وقاصين وروائيّين، الطبيعي أن يكونوا ملتزمين بهذه الأنواع من الأدب على أن تكون نظيفة، وكما أسلفنا: السياسة للسياسيّين. وإذا ناقشوا في بلدانهم استقلالية المثقّف، وقضايا الإبداع والحرّيات، والسرد الروائي، والتاريخ والنهضة والعروبة والإسلام، والكثير من القضايا الراهنة دوماً، فلأنه لا بد من مناقشة شيء ما من هذا القبيل في الندوات الثقافية.
هذه هي الثقافة الناجية بجلدها، ثقافة تصدع بما تُؤمر به.

هذا الشرق ليس تعيساً إلّا لأنه ابتُلي بهذا النوع من المثقّفين الذين يبرّرون للدكتاتوريات دكتاتوريّتها. لكن لماذا ندعوهم بالمثقّفين؟ في الواقع ليسوا بمثقّفين، إنهم موظّفون لا حول لهم ولا قوّة، وإذا كانوا مثقّفين، فمثقّفو الأنظمة القمعية، لا يرغبون سوى بالموالاة، ودائما إلى المزيد من الموالاة.