في الثمانينيات من القرن الماضي، حصلت قناعة شبه كاملة في الوطن العربي أن زمن الانقلابات ولّى إلى غير رجعة، فالأنظمة تمكنت، وبات للدول رؤساء تاريخيون انتُخبوا بغالبية كاسحة تقارب مائة بالمائة إن لم تفقها، طبعاً من صنع الأجهزة الأمنية.

بذلك أنجزت الأنظمة تقاليد اتفق عليها، يتعهد فيها الشعب بعدم الاشتغال بالسياسة، على أن يكفل العسكر الاستقرار. ما أرسى عملية تكاذب متبادلة، فالاستقرار كان مطلوباً بشدة، ولو كانت الديمقراطية مؤجلة. استغل ذلك ضباط الانقلابات جيداً، فأصبح سحق أية معارضة مشروعاً، لئلا تهدّد سلام المجتمع.

اكتسبت الانقلابات سمعة طيبة، يوضحها المثال السوري، فقد كانت نظيفة؛ انقلابات بيضاء، فلا ضحايا ولا دماء. كل انقلاب ينعم على الشعب بعطلة لا تقل عن ثلاثة أيام تمتد أحياناً إلى عشرة، يُمنع خلالها التجول إلا بضع ساعات للتزود بالخبز والسجائر.

كانت سكينة الشوارع الفارغة، لا يعكرها عسكر مسلحون يتثاءبون في عز النهار. أكثر من كان يتمتع بالعطلة الإجبارية طلبة المدارس، بينما يقضيها الأهالي في السهر وشرب الأركيلة والشاي والقهوة ولعب الورق، والاستماع إلى برقيات التأييد المنهالة من قادة قطعات الجيش على المجلس الوطني لقيادة الثورة.

” بتعدد نجاحاتها، اكتسبت الانقلابات في القرن الماضي سمعة طيبة”

ترسخت هذه السمعة، بإعلان الجيش عدم تخليه عن معاركه القومية، ففي بياناته صرح أنه ما زال في حالة حرب مع الاستعمار، ولو من طرف واحد، فالاستعمار خرج قبل سنوات “يجرجر أذيال الخيبة”.

حسناً، لكن ماذا عن أذناب الاستعمار المدسوسين في أجهزة الدولة؟ فاقتُلعوا من الوجود بإسقاط حقوقهم المدنية، وكانوا من رجالات العهود البائدة، الذين خاضوا معارك الوطن الدبلوماسية ضد الاستعمار في المحافل الدولية، شابتها ثورات واشتباكات مع قوات الانتداب الفرنسي، توجت باستقلال البلاد.

عقب كل انقلاب، كان الضباط يسلمون الحكم إلى حكومة مدنية وينصرفون إلى ثكناتهم. فبدا وكأن الانقلاب عملية استلام وتسليم، هذه الشبهة أصابته بضرر، فاستسهل الضباط الغاضبون على الدوام الانقضاض على الحكومات الدستورية والدستور والبرلمان. الانقلاب لم يعد نظيفاً، أساءت إلى سمعته الإعدامات واعتقال المئات وملاحقة الآلاف. فكان لا بد من القائد الأوحد على أن يكون دكتاتوراً لإيقاف فوضى الانقلابات.

اضطر الدكتاتور إلى البقاء على رأس السلطة إلى أجل غير محدود لتأمين الاستقرار اللعين، وكان تقاسماً عادلاً للمنهوبات والمشاريع والاستثمارات، بالمحاصصة الرشيدة بين رجال الانقلاب الذي أصبح نظاماً ولصوص النهوض الاقتصادي. أما الضامن لعدم المساس بهذا التوازن المثالي، فأجهزة المخابرات والسجون والمشانق. الاستقرار ليس بلا ثمن، لا يهب الدكتاتور شيئاً من دون مقابل.

مع هبوب رياح “الربيع العربي”، استعاد الانقلاب حظوته، وطرح لإنقاذ البلد من الربيع والدكتاتور معاً، بالعودة الى الماضي. خامرت الشعب الظنون؛ سيعيد الانقلاب المهزلة نفسها، إن لم تكن الذريعة الاستعمار، فالإمبريالية، أو الاشتراكية، أو الديمقراطية أنشودة العصر… وربما كلها مجتمعة.

ما الجدوى، إذا كان كل انقلاب مدججاً بدكتاتور؟