يمكن التنويه بكلّ جدارة إلى جهود مؤسَّسات عريقة وجهات ثقافية في البلاد العربية، كوزارات الثقافة في مصر وسورية والكويت، قامت قبل عدّة عقود بحركة ترجمة قدّمت قدراً معتبراً من التراث الأدبي الإنساني، إضافةً إلى الكثير من الكتب التأسيسية لاتجاهات فكرية اجتماعية وفلسفية وسياسية. كانت خطوةً جيّدة، إضافة إلى بعض الجهود الفردية، لكنّها لم تعُد كافية، وذلك لما أصابها من تباطؤ، أو بسبب التخلّي عن هذه المشاريع.
منذ نحو أكثر من عقد، بدأت مؤسَّسات ثقافية مرموقة في بلدان الخليج بحركة ترجمة واسعة النطاق، مثل “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة، بالتخصّص في ترجمة الكتب في العلوم السياسية وعلم الاجتماع والثقافة والاقتصاد والإدارة، وانصبّ غيرها في الإمارات على ترجمة الرواية، وحافظت مصر على إصداراتها في مختلف أنواع المعرفة والأدب، كما أسهمَت الكثير من دور النشر في البلدان العربية، ما سدّ بعض النقص الحاصل، فالترجمة ليست إلى اكتفاء، فالجهود يجب أن تكون متواصلة، حتى بات ما نشهده حالياً بدايةً واعدة بتحقيق نقلة جيّدة في الاتجاه الصحيح والمطلوب.
مشهدٌ تشُوبه أخطاء ترقى أحياناً إلى الفساد
وإذا كنا سنركّز على الرواية، فلأنّها أخذت حيّزاً كبيراً من الترجمة من الناشرين العرب، لكنّ الجانب السلبي لا يقلّ عن الجانب الإيجابي، الذي انعكس في الإقبال على قراءة الرواية وكتابتها، ما أدّى إلى ظهور دُور النشر بالعشرات في كلّ بلد وأيضاً خارج الوطن العربي، حيث بات العرب المهاجرون واللاجئون بالملايين، استعادوا صلتهم بالوطن، باحتلال الأدب نصيباً من اهتماماتهم، تبدّت أيضاً في تنشيط الترجمة.
ولم يعُد مستغرَباً ظهور عدد كبير من الروائيّين، كان في تزايُدهم ما بشّر بنهضة روائية لافتة تجلّت بظهور أسماء بدأت تأخذ مواقعها في عالم الرواية، بالرغم من تخلّف النقد لعدم توافر النقّاد، لم يعوّض عنهم ظهور صحافة ثقافية وصحافيّين يكتبون في الأدب بحماسة شديدة من دون خبرة، في مواقع التواصل الاجتماعي. كذلك لوحظ أنّ الرواية العربية تنهض للقيام بحركة معاكسة بالقفز إلى بلدان الغرب على الضفاف المقابلة، وتأخذ نصيباً في الترجمة المعاكسة من العربية إلى اللغات الأجنبية، مع ما فيها من تعقيد وتحيّز واشتراطات لا محلّ لذكرها.
شكّلت الترجمة مشهداً ثقافياً يُوحي بالازدهار، فالمطابع تطبع، والقرّاء يشترون، والجوائز يُعلَن عنها، والدعاية تُبذل، والمعارك تدور… مشهد يعبّر أفضل تعبير عن عصر الرواية العربية، لكن ماذا لو كان هذا المشهد مخادِعاً؟
ليس لصعوبة الموضوع ولا غموضه، بل لأنّ الترجمة سيّئة
في الواقع، هذا المشهد ليس مخادعاً، لكن تشوبه بعض الأخطاء، ترقى أحياناً إلى الفساد، يمكن التغلّب عليه بالإيمان في أنّ الترجمة جهد خلّاق، يحتاج إلى أمانة ومثابرة مع تصحيح الاتجاه. ففي المجال نفسه، يلاحَظ أنّ قسماً لا بأس به من الترجمات ضعيفٌ إلى حدّ الرداءة أحياناً، فالتهافت على نشر الرواية الغربية بأنواعها كان بحُكم مردودها المادّي الجيّد على الناشرين، بالتالي أصبح التنافس على إصدارها لا يخلو من تسرّع، عموماً من دون تحرير ولا تدقيق أو مراجعة، حسب اعتقاد رائج، أنّه مهما كانت، فهي أفضل من الروايات المحلّية، ما أصاب القرّاء بالعدوى، فأصبح منطقهم تفضيل الروايات الغربية، مع أنّ سوء الترجمة يمنعهم من تذوّقها، ويجعلهم لا يفهمون منها إلّا النزر اليسير، ويذمّون الروايات المحلّية ولو أنّهم لا يقرؤونها. وبلغ التبجّح الادّعاء بعدم وجود رواية عربية تصلح للقراءة.
لم نعد نُخفي عجزنا عن مواكبة ما يُترجَم إلى حدّ أنّه يعسر علينا الفهم، ليس لصعوبة الموضوع ولا غموضه، بل لأنّ الترجمة سيّئة، إلّا إذا أعدنا صياغة الجملة، وافترضنا أنّ السياق ليس بهذه الضحالة، وتخيّلنا أنّ الكاتب لا يقصد هذا بل ذاك، وكثيراً ما ذهب بنا الظنّ إلى أنّه لا يُعقَل أنّ الكاتب يكتب بهذه الركاكة. وأحياناً لا ندري لماذا تُرجمت هذه الرواية أو تلك، ليس لمضمونها، وإنّما لأنها لا تستحق.
المشكلة أنّ الزعم بأفضلية الرواية الغربية لا ينطبق على كل ما يترجَم، لكن بلغ الغرور عند بعض القرّاء في وسائل التواصل، وما يزعمونه من ثقافة، أنّهم يغرّرون بغيرهم إلى حدّ اعتبار الرواية العربية لا تستحق القراءة، أمّا الرواية المترجمة فتحظى بالتقريظ المبالغ به. إنّ طوفان الرواية الغربية، من دون التأكّد من صلاحية الترجمة، أدّى إلى تسويقها رغم رداءة أغلبها، وكان في إيراد وربّما تلفيق ما كُتب عنها من مديح، وما نالته من جوائز، ما يوحي بمنع انتقادها، ولو أنّها لم تعجبنا.
توخّيت أن يكون ما أوردته بسيطاً وواضحاً ومفهوماً. تعقيباً عليه، ليس المشهد سيّئاً، هناك أمثلة مضيئة تفتح النوافذ للشمس، إنّ استمرارها كفيل بإشاعة النور وتبديد الظلام.
-
المصدر :
- العربي الجديد