مسيرة الرقابة الظافرة ليست جديرة بالثناء، وإن كانت لا تخلو من إعجاب بهذا الجهد البشري المكرَّس للمنع وإبقاء الأمور على ما هي عليه. حقّقَت إنجازاتها في الصمت، ليس لأنّ السلطة استشعرت ما يهدّدها، بل في استباق ما قد يهدّدها، فوُجدت الرقابة من واقع القدرة على القمع، ما أدّى إلى واقع ألّا شيء عصيّا على الرقباء.

اقتصرت الرقابة في القرن السادس عشر على الكتب الدينية، كانت في كل فترة تصدر قائمة بالكتب الممنوع تداولها. في منتصف القرن، أحسّت أن الأدب ليس مجرّد لغة جميلة، هذه اللغة ليست بالبراءة التي تبدو عليها، إنّها محمَّلة بأفكار لا تخفيها تحايلاتها، فصدر قرارٌ صارت بموجبه كتب الأدب من صلاحيات عمل الرقباء مع أنّه جرت السخرية منه. بدا حظرُ مؤلّفات الأدباء أمراً مضحكاً، هذه الكتب لا تُقرأ على أساس كونها أشياء يجب الاعتقاد بها، بل حكايات وخرافات للتسلية، وتعليم الحكمة، وسرد حوادث عن تاريخ مضى من عصور سلفت.

تحت تأثير هذه الانتقادات، خُفّفت الرقابة، فبعد المنع، جاءت الأوامر بإجراء تصحيحات في داخل النصوص، فأصبح هناك تخصُّصٌ في التنقيح، يُسنَد إلى رهبان ولغويّين ذوي معرفة، يتعاملون مع الأعمال الأدبية بحيث تخرج من تحت أيديهم نظيفةً، فمثلاً كتاب بترارك “الديوان”، اجتهد الراهب الدومينيكاني جيرولامو في إعادة صياغة المقطوعات الشعرية، لئلّا يُعتبر غرام فرانشيسكو بلوراً حسّياً. باتت إعادة الصياغة معتمدةً، وأصبح الكِتاب غالباً ما يُنشر مع اسم مؤلّفه، مع توضيح ينصّ على أنه صُحح بعناية.

هذا النوع من الرقابة طاول “الديكاميرون” للإيطالي جيوفاني بوكاتشيو، الذي كتبه في منتصف القرن الرابع عشر، ويحكي عن عشرة شبّان وفتيات هربوا من الموت الأسود، يحكي كلٌّ منهم يومياً قصّة، بحيث يبلغ العدد مئة قصّة، عن الفضيلة ومغامرات السفر، والخلافات بين الأُسر النبيلة والطبقة التجارية، وتسخر من جشع البشر، كذلك رجال الدين، ويروي حكايات الحب التي تنتهي بشكل مأساوي أو بسعادة، والحيل التي تمارسها النساء على الرجال، والرجال على النساء.

يقوم كتّاب الأنظمة الشمولية بمهمّة التنقيح على أحسن وجه

بعد صدوره بقرن كامل، وجد الرقباء أنه من غير المسموح بأية طريقة كانت، الكتابة بشكل سيئ أو مخجل، أو حتى بالتلميح، عن الموضوعات المقدّسة، بل يتحتّم تغيير الأسماء أيضاً. فمُنع بيعُه وعُرض للتنقيح. لكن الرقباء لم يستطيعوا الحصول على نسخة معتدلة تُرضي متطلّبات الرقابة. بعد عدّة محاولات، نجحوا في التوصل إلى نسخة منقّحة بشكل جيد، تحت إشراف سالفياتي الذي أُطلق عليه من فرط براعته “قاتل بوكاتشيو”، إذ لم يتوان عن تحريف النص والمعاني والأمكنة وزمن الأحداث، وجعلها تتأقلم مع أمكنة وأزمنة مختلفة بعيدة عن زمنها، لم يكفِه تحويل رئيسات الأديرة إلى زوجات كونتات، والراهبات إلى فتيات، وآباء الأديرة إلي معلّمين، بل كلّما تطلّب الأمر تحريفاً في المعنى، حتى بلغت الجرأة حذف كل التلميحات الساخرة، وحتى الإيماءات التي يُعتقد أنها ذات مغزى. هذه النسخة ظلّت لمدة طويلة الطبعة الوحيدة لكتاب “الديكاميرون” المسموح رسمياً للإيطاليّين بقراءتها.

هذا النوع من التنقيح أدّى في أحيان كثيرة إلى شعور المصحّح بامتلاك العمل، كما لو أنه أصبح المؤلّف ذاته، إنْ لم يكن أكثر، فالمصحّح “جيرولامو” يكتب في مقدّمة “الأحاديث السارّة” لنيكولو فرانكو أنّ الكتاب أصبح شديد الإمتاع وفق تدخّله الدقيق، وأنّ له الفضل في إحياء الأعمال المحظورة، باعتبار أنّها ميتة، ولم تكن رغبته في إصدارها باسمه، إلا لأنها صارت تنتمي إليه أكثر من مؤلّفها الأصلي.

هذا التقليد يقدّم لرقابة الدول الشمولية المسوّغ لإحياء الكتب الممنوعة، وهو مجرد اقتراح، وإن لم تكن بحاجة إليها. أما الحالية، فلا داعي لتنقيحها، أدباء هذه الأنظمة يقومون بهذه المهمة على أحسن وجه، فالكتابة عن الديكتاتور تحيلنا إلى أنه من إنتاج أميركا اللاتينية المختصة بتفريخ الديكتاتوريات العسكرية، أما الثورة فعلى أنها زلزال أو بركان، وربما إعصار، فالطبيعة تتسع. كذلك الضحايا، إنهم بلا هوية، وبلا قاتل، أو مُتّهَم، ولا طائرات تقصف، أو براميل تتفجّر، ولا حتى كيماوي، مجرد أشلاء تُرحَّل إلى مقابر جماعية.

ما يصدر من روايات في الدول الشمولية لا يحتاج إلى تصحيح، فالسردية المعتمَدة أن الربيع كان جحيماً، والحرية فوضى، أما الحرب على الشعب، فضدّ الإرهاب. هكذا الروايات، كأنما الرقابة كتبتها؛ ما يضمن إصدار كتب منقَّحة ومهذَّبة، كتب ميّتة.