تتكشف آفاق الرواية ومستقبلُها على المدى الطويل، ليس بانقلابات، حتى الانقلاب الذي أحدثته رواية “عوليس” لـ جيمس جويس، لم يُستوعب حتى الآن، وكأنها رواية لا تُكتب إلّا مرّة واحدة، لكن منحت السرد تجربةً ثرّة، في تداعيات اللاوعي، فأصبح معتمدًا في الفن الروائي، لقد أغلق ثغرة. ظهر بقوة في روايات فولكنر وفرجينيا وولف، وإن ليس بهذا الزخم المربك، لكنه أخذ حجمًا معتبرًا آنئذ بين أدوات الروائي، ثم تراجع مع الوقت، واحتل حيّزًا لا غنى عنه في الرواية.

لم يمر على الفن الروائي مثل هذا الخرق الكبير والمثير، لكن في الخمسينيات والستينيات، ستشهد الرواية عاصفة تهبّ من فرنسا تكاد أن تقتلع الرواية، حسبما عرفناها، لتحل أُخرى لا نعرفها، كانت مع قدوم روائيّي “الرواية الجديدة”، وفي مقدّمتهم، آلان روب غرييه وميشيل بوتور وناتالي ساروت، بحيث بدا وكأن زمن من سبقهم قد مضى، ولم يعد بلزاك وفلوبير وزولا، إلّا أهدافًا صالحة للانتقاد والتشفّي، قبل مواراتهم في التاريخ إلى غير ما عودة، فلم يعودوا مثالًا نجيبًا للاقتداء بهم، أو حتى الإشارة إليهم. وأصبحت الساحة الروائية ملكًا لفرسان الرواية الجديدة الفرنسية.

اعتُبر التجريب الذي روّجت له الرواية الجديدة، تجديدًا لها، وانعكس على السينما، بما دُعي بالموجة الفرنسية الجديدة. كُسرت بطبيعة الحال القواعد المتعارف عليها، فالدعاوى كانت مشروعة مثل انتقاد تقدُّم الزمن بصورة خطّية، ومحاكاة الواقع بشكل دقيق، فقد كان في النقل عن الواقع والإحالة إليه، ما يصبّ في الفوتوغرافيا، كذلك اعتماد بنية روائية تقوم على المكان والزمان ونمذجة الشخصيات ما يحيل إلى أنماط بشرية عامّة من دون خصوصيات، كذلك نفي علم الكاتب بالعالم الداخلي للإنسان، وما يفكّر فيه، إضافة إلى ادّعاء الراوي الإحاطة بكل شيء. كانت المعرفة الكلّية غير مقنعة، كذلك رفض الحبكة، طالما الحياة لا تعترف بها، فما تحبكه الحياة إنما يتمّ بصورة عشوائية غير منتظمة، وتحتمل عدّة وجهات نظر، مع تنويع في المستويات، وليس كما نلاحظه لدى الروائيّين الكلاسيكيّين.

اتّخذ التجريب في الرواية مكانةً سامقة ومبالغاً فيها

وإذا كانت قد حقّقت ضجيجًا بعشرات الروايات، لكن لم يُكتب لها الاستمرار في راديكاليتها، وقدّمت تنازلات، أحدثت متغيّرات، وكان من حسناتها وسيّئاتها أنها فتحت أبواب التجريب على مصراعيه، ولو كان الجديد ليس تجديدًا، بقدر ما هو تجرّؤ على الرواية باختراقات غامضة، ولقد كان للغموض سحره، وكأنّه يُخفي أسرارًا كان على القارئ اكتشافها، يؤيّده نقّاد يؤوّلون الرواية على أكثر من وجه، فأصبحت الرواية حمّالة أوجه، قد تمنحها أبعادًا تُضفي عليها حمولة فكرية ونفسية وسياسية ودينية وعدمية.

اتّخذ التجريب مكانة سامقة ومبالغًا فيها، أصبح بوسع الروائي إذا جرّب، الادعاء بأنه شقّ طريقًا غير مطروق في عالم الرواية، وبات من الشجاعة المألوفة أن يبدأ شبّان الرواية في عالمنا العربي، رواياتهم بالتجريب إلى حدوده القصوى، وإذا بدا مفهومًا، فلا هذا تجريب ولا رواية، اقتداءً بعمالقة الرواية الجديدة الذين انقضّوا على الشخصيات والمكان والزمان والحبكة والسارد… أصبح التجريب مبرِّرًا للإلغاء بدعوى إزاحة الأساليب القديمة المستقرّة، والتبشير بجديد ينهال بكثافة لافتة من دون أن يشكّل إضافة حقيقية.

بينما استطاعت الرواية الواقعية احتواء تجارب الرواية الجديدة، بصرف النظر عن الخلافات بين روّادها، الذين طمحوا إلى الإجهاز على الواقع، هذا ما جرى تصوُّره، لكنه لم ينجح، وإن خلخل أركان الرواية، لكن استفادت منه كثيراً في إعادة النظر بأدوات الروائي، إلى حدّ أنه أضاف إليها، فانتقاد الزمن سمح بتعدُّد مستوياته، وحرية الحركة من الماضي إلى المستقبل وبالعكس. كذلك القدرة العليمة للسارد، أصبحت محدودة، مع أنه سواء كانت الرواية تدّعيها أو تفترضها، ففي النهاية تعود إلى الروائي نفسه، أي هو الذي يكتبها إن كانت محدودة أو مطلقة، وتعود إلى اختياراته، على أن تكون مقنعة.

وكان في شطط تيار “الرواية الجديدة”، انتقال التجديد والتجريب إلى النقد، والتبشير بموت الروائي، وموت الرواية، كانت مغامرة من فرط ما شطحت، أدّت إلى فشلها، ليس في مجال النقد فقط، وإنما في انتشار الرواية وتوالد الروائيّين.
لم تتخلَّ الرواية الواقعية عن واقعيتها بقدر ما اتّسعت، حتى أن الخيال بات من أدواتها الأثيرة، ولم تكن قيامتها إلّا في استيعاب ما يخدمها.