بداية لنختصر، يخشى العالَم الفكرة، والمقصود قوّة الفكرة ومدى تأثيرها. أكثر من تخشاها الحكوماتُ، يتّهمونها بإشاعة الفوضى. فالأفكار وراء تهاوي أنظمة الحُكم، لا يأتي الثوّار خالِي الوِفاض، كذلك الانتفاضات الخاسرة التي تُزعزع أركان الحُكم. أمّا الانقلابات فسواء نجحت أو أُجهضت، وراءها عسكر ليسُوا مدجّجين بالأسلحة فقط، هُم أيضاً يحملون أفكارهم، وإن بشّرت بالخراب.

لا يأتي التغيير عرَضاً، ولا بالمُصادفة، يأتي من جرّاء أفكار تضجّ بها العقول، وما سَريانها في الخفاء، إلّا لتُؤتي مفعولها في الواقع. إن الخشية منها ممّا ينجم عنها من تحوّلات، تفوق الخشية من الموت الذي يحدث، حسب طبائع الأشياء، أما الفكرة فما تفعله، فضدّ طبائع الأشياء، وفي أحد وجوهه لا يقلّ عن التدمير، قد يأخذ عقوداً، فتجربة الاتحاد السوفييتي كانت مثالاً قاسياً على الاستهانة بحياة البشر، بينما كان الهدف منها سعادتهم، فحمَلة الأفكار يخطئون أحياناً الهدف، إن لم يكن غالباً، ما يُحيلها إلى إنجاز يُضارع الموت، بترحيل عالم إلى الفناء، وحلول عالم من الاستبداد، يفوق الفناء نفسه.

لا يُمكن ضبط أنواع الأفكار ضمن تصنيف موحَّد، فهي شريرة، خيِّرة، ثورية، فاضلة، متعصّبة، دينية، طليعية، إجرامية، فوضوية، مجنونة… وما أكثرها. وإذا كانت، مهما كانت، تنشد العدالة، حسب زعمها، ففي الحقيقة لا تنحرف إلى ضدّها إلا بالتطرّف، نتيجة اعتقاد جازم في صحّة الفكرة وجدارتها بالتحقّق، إلى حدّ يُمكن القول، إن قوّة الإيمان بها، قد تستعبدنا ولو أثبتت خطرها، وكأنها منزّهة عن الخطأ، لا يأتيها الباطل. فالإيمان المُطلَق يدفعنا إلى الانخراط في نسَق أفكار مُحكَم، يستولي علينا، ويؤدّي إلى التضحية بحرّياتنا وتطلّعاتنا ووظائفنا وأيضاً بحياتنا، وربّما حيوات الآخرين، كما نشهده لدى الانتحاريين الإسلاميين، وطلّاب التحرّر أصحاب المُعتقدات الثورية، ما يُعرّضهم تحت تأثيرها إلى عملية غسل دماغ، ويصمهم بالإرهاب.

محاولة فهم دوافع المتطرّفين لا تعني التواطؤ مع منطقهم المشبوه

يعتقد الغرب أن هذا التطرّف يصدر عن مجتمعات يتّهمها بأنها بدائية، ما زالت في مرحلة ما قبل المنطق، وليس كمجتمعاته التي تُعالج أمورها بالمنطق، فنسبَت هذه الأفعال المتطرّفة “غير العقلانية” إلى الجهل والفقر؛ كلاهما الأرض الصالحة لانتشار الإرهاب، ما يحوّل المتطرّفين ذوي المعتقدات البالية إلى مجانين.

ما سبق ليس مجرّد شائعات، وإنما نوع من التنظير “العقلاني” الدارج، بينما المُلاحظ أن حمَلة الفكر المتطرّف ليسوا جهلة ولا مجانين ولا فقراء، أو كائنات غير عقلانية، ما دام أنّ الكثيرين من الشريحة المتعلّمة، يحملون شهادات عالية، ومن الطبقة المتوسطة أو الثريّة، لا تُعاني من الفقر. إنهم أُناس عاديّون يفكّرون بكلّ منطقية. وهو ما نراه لدى المفكّرين الراديكاليّين وقادة الأحزاب المتشدّدة والجماعات الفوضوية. ما يعني أن الفكر المتطرّف لا يُعاني من خلَل في المنطق، بل من المنطق الصلب، الذي لا يعتقد إلّا بنفسه. أمّا العقلانيون الذين يرفضون أفكارهم، فيمكن القول إنهم قد يشاركونهم معتقداتهم، لكنهم لا يشاركونهم الحلّ، بل ويتهرّبون من تحرّي الأسباب، مع إنه لا تعني محاولة فهم دوافع المتطرّفين التواطؤ مع منطقهم المشبوه.

هذا التبرير لعقلانيّة التفكير المتطرّف لا تدلّ بأي حال على الدفاع عنه، وإنما مواجهة قضاياه، ليس بتلفيق الدوافع ولا التنظير المجّاني لتطرّف تفسيره يحول بيننا وبين إدراك أسبابه الحقيقية، وإلصاقها بالجنون وربّما بالجينات، وإنما في التبصُّر بما يُطرح من أفكار، هل هي منسجمة مع مقتضيات الواقع، حتى لو بدت متماسكة منطقياً، وهو ما يدعو إلى رفض عقلانية التطرُّف، إذا أدَّت إلى سلوكيات تهدر الحياة، فالدفاع عن الإرهاب لا يعدو إلّا تبييضاً له.