لِمَ يفكّر الإنسان في الخير؟ لولاه لما أتاه من شرور. كأن الأمر تكفيرٌ عمّا جنته يداه. مع أنه اعتاد أن يرمي باللائمة على الأشرار، ويُعلي من شأن الأخيار، لكنّه ــ ويا للعجب ــ يختار الشرّ، فهل هو مجبولٌ عليه؟ كأنّ الحدود بينهما متداخلة، لذلك أدرك الفلاسفة أنه لا بدّ من قواعد أخلاقية واضحة، كي لا يجد الإنسان ذريعة للتنصّل من تبِعات أفعاله. خاصّةً إذا لاحظنا أن أتباع الشرّ كثرٌ بالمقارنة مع أتباع الفضيلة، الأقل عدداً.
في محاولة للتفسير، منذ الإغريق، وجد هيراقليطس أن معاناة المرء ناجمة عن التردّد بين الفضيلة والرذيلة. فالفضيلة توحي بالزُّهد والتصلّب والتقشّف: حياة بلا إغراءات ولا أفراح. أمّا الرذيلة، فتُحيطها هالة من الجاذبية، وتُرافقها تصوّراتٌ من المتعة والشهوات، والانطلاق بلا حدود.
أبيقور أيضاً، صاحب مذهب اللذة، أسهمَ في قصّة الخير والشرّ. فالسعادة في الحياة هي الخير الأسمى، وكلّما استمتعنا أكثر وشبِعنا من الشهوات، سعدنا أكثر وكانت حياتنا أفضل، أي أن الخير هو ما يحقّق رغبات الإنسان، وما يظفر به من المتَع.
لطالما فكّر البشر بنواميس يُفترض أن تصلح لكلّ زمان ومكان
من هذا المنظور كانت نظرية جيريمي بنثام في القرن السابع عشر، تأسّست على فلسفةٍ عمادُها المتعة والمنفعة. يفسّرها هذا المبدأ العملي: إن كلّ ما يسبّب لنا المتعة جيّدٌ، وكلّ ما يسبّب الألم سيّئ… هذه النظرية العملية أو النفعية، أخذت بها سياسات ودول واقتصادات وثقافات.
ليس من الصعب انتقاد عدم أخلاقية هذه النظرة، من ناحية أنها تبدو الأقرب إلى الشر، أو تبريراً له. فالإنسان على استعداد لارتكاب الجرائم، باعتبار أن السرقة والقتل يحقّقان المنفعة، ما يعزز القول عندئذ أن الجريمة تُفيد، من دون النظر إلى أن الظفر بما نرغب فيه قد يسيء لغيرنا. لا تُخفي هذه الفكرة الجانب المغرق في الأنانية.
لكنْ ألا يبعث عمل الخير في الإنسان الإحساس بالسعادة؟ ليس من المبالغة القول إن الاسترشاد بالنزعات الأخلاقية يقودنا نحو السعادة الحقيقية، حتى أن بعض الفلاسفة قالوا إن التقيّد بالمبادئ الأخلاقية في التعامل مع الآخرين واجبٌ، سواء جلب لنا السعادة أو لم يجلب. أي بصرف النظر عن الجزاء أو المقابل. رغم إصرار البعض الآخر من الفلاسفة على أنه لا توافق بين الأخلاق والسعادة، إذ على مَن يريد السعادة والمتَع الحِسّية أن يتبع طريق الشهوات والرذائل، لا طريق الأخلاق والفضائل.
هذه المقدمة عن الأخلاق والخير والشرّ ليست أكثر من مدخلٍ للقول إن الخلاف سيبقى قائماً.
المواريث الأخلاقية المختلفة للبشر تتعايش في عالمنا المعاصر مع بعضها البعض، حتى أن البشرية أخذت بها كما هي، ولطالما اشتبهت إحداها بالأخرى، من دون تفريق بينها. لكن على الرغم من التباعد، وربما التقارب بينها حسب الأهواء والميول، جرى التفكير بأخلاق كونية، يُفترَض ألّا تتأثّر بزمان أو مكان، صالحة في جميع الأحوال لبني البشر ولا يجوز النيل منها، ولا التصغير من شأنها، أو المساومة عليها، والتنازل عنها.
هذه المبادئ الكونية، نجدها مبثوثة في الأنظمة الأخلاقية التي تعاقبت على البشرية. نجدها لدى اليونان والرومان، وبالأخصّ لدى الفلاسفة الرواقيين، كما نجدها في ميراث الأديان السماوية والتنوير وأعمال الفلاسفة، إلخ. وهي مجموعة من المبادئ والنواميس الخاصّة بتحديد الخير والشرّ، والمعايير التي تتيح لنا أن نحكم على أفعالنا البشرية سلباً أو إيجاباً؛ يمكن أن تكون قوانين كونيةً تنطبق على جميع الكائنات البشرية، تحكم تصرّفاتها وتُصوّبها؛ كضرورة معاملة جميع البشر بشكل متساوٍ بدون تفضيل مسبق لهذا الشخص على ذاك، وعدم اللجوء إلى التعذيب، مهما كان السبب، أو الحاق الأذى والضرر بالآخرين، واحترام كرامة الإنسان، وعدم إهانته واحتقاره.
لا يمكن لهذه المبادئ وغيرها أن تتحقّق إنْ لم نتصوّرها نظاماً يتعالى على الأفراد والحكومات والدول، ويخصّ البشرية جمعاء، بصرف النظر عمّا يفرّق بين الأفراد.
-
المصدر :
- العربي الجديد