بدا الوضع في المنطقة العربية قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وقد اتّخذ مساراً نهائيّاً على الأقلّ بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، فالعرب يتسارعون إلى التطبيع، وكأنّ السبق إليه غنيمة، ولو كان مهيناً، يُرضون الأميركان، ويكسبون “إسرائيل” حليفاً ضدّ إيران. بالنسبة للسوريّين، لم يكُن الأمر في تحويل “إسرائيل” إلى صديق، واعتبار إيران العدوّ، كلاهما عَدوَّان لا شكّ فيهما. “إسرائيل” سبب عدم استقرار المنطقة، كان من نتائج وجودها تدهور أوضاع البلدان العربية، وهزائمها المُتتالية، وظهور العسكر الذين استولَوا على الحُكم، فابتُليت الشعوب بهزائم أشدّ وطأة، بأنظمة دكتاتورية عسكرية همجية، وإهدار طاقات المنطقة على الانقلابات والحروب، وأصبحت فلسطين مأساتنا.
ولا بأس هنا، إذا استعملنا تعبيراً أدبيّاً قد يؤدّي المطلوب، بالنسبة للذين يعتبرون فلسطين ما زالت قضيّتهم، وجُرحاً ما انفكّ يتّسع. جرحٌ أصبح نازفاً، قضيّة العرب المركزية أُصيبَت في مقتل، أصبحت “إسرائيل” صديقاً لا يخجل بعض العرب في التماهي معه، بزعم أنها ستدافع عنهم ضدّ إيران العدوّ المُشترك والوحيد، الذي ليس هناك غيره، وأصبحوا على عِداء مع المقاومة الفلسطينية.
هناك آراء سائدة تجدُ قدراً من القبول، مفادها أنّ “حركة حماس” صنيعة إيرانية وانتصارها يعني انتصارَ إيران، وما عمَليّة “طوفان الأقصى” إلّا فرصة لتحويل شعار وحدة الساحات إلى واقع. كانت التوقّعات مشاركة دول المقاومة فعليّاً بالحرب، إن لم يكُن فوراً، فخلال أيام. حصلت اشتباكات حدودية، تطوّرت إلى ما يُشبه حرباً مضبوطة، تحت رقابة أميركية، بينما كان الطرفان، “إسرائيل” و”حزب الله”، يدفعانها إلى الحافة. أسباب الحذر الإيراني في بداية حرب غزّة، أنّها توقّعت لـ”حركة حماس” هزيمة مبكّرة، فتنصّلت من “طوفان الأقصى”، وأنكرت عِلمها به، فـ”حركة حماس” لم تستأذنها. أعقبه ارتباك إيراني، بالإصرار على نفي أية علاقة لها بالحرب، وعدم التورّط فيها، وأكّدت على لسان عضو في “مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني”: “دخولنا عمليّاً الحرب سيخدم إسرائيل وليس القضية الفلسطينية”. لافتاً إلى “أنّه إنْ حدَث هذا الأمر فإنّ مَن سينجو مِن هذه المعركة هو الكيان الصهيوني”.
فلسطين بالنسبة لإيران استثمار سياسي ضمن مشروع عابر
أبدت “حركة حماس” صموداً إعجازياً، وبدت الحرب ممتدّة ولا هزيمة في الأفق المنظور. لم تشأ إيران تمرير ذلك بلا مقابل يرتدّ عليها. فأعلن متحدّث إيراني بأن عملية السابع من أكتوبر جاءت انتقاماً لمقتل قاسم سليماني، قائد “قوّة القدس”، عام 2020. فوجئت “حركة حماس” بهذا التصريح، ولم تصمت، كان الردّ سريعاً، بنشر نفي قاطِع: “جميع نشاطات المقاومة الفلسطينية تأتي ردّاً على الاحتلال واعتدائه المتواصل على الشعب الفلسطيني والأماكن المقدّسة”. سرعان ما أدركت إيران أنّ التصريح سيعقّد علاقتها مع “حركة حماس”، فاختفت أقوال المتحدّث الإيراني من التقارير في وسائل الإعلام الرسميّة، وكأنها لم تكُن. ما دفعها إلى إعادة النظر في تردّدها، سمعة محور المقاومة أصبحت مهدّدة بالانهيار، فأوعزت لـ”حزب الله” رفْعَ مستوى الاشتباكات الحدودية.
هل تهمّ إيران سمعتها؟ في حرب غزّة التي ستدخل شهرها العاشر، لم يكن محور المقاومة على سويّتها، كان تمدّدها في المنطقة قد نشأ على أساس أنها أخذت القضيّة الفلسطينية على عاتقها، ما يبرّر احتلال أربع عواصم عربية… والحبل على الجرَّار.
منذ بداية العدوان، لم يُخفِ السوريّون عداءهم لمحور المقاومة، كانت الحجّة التي استُبيحت بها سورية من “حزب الله” والمليشيات المذهبية الإيرانية، ذريعة لتحرير القدس، كما عبّر عنها نصر الله بالحرف الواحد: “نعم، طريق القدس يمرّ بالقلمون وبالزبداني وبحلب وبحمص وبدرعا وبالسويداء وبالحسكة”. فمَرُّوا من هذه المُدن وغيرها، وأنهَوا المهمّة، وما زالت مليشياتهم تحتلّ مواقع لها في الداخل السوري. طريقُ القدس معروف، يكفي أن يجتاز “حزب الله” حدود الجنوب ليقرع أبوابها. كان دخولُه إلى سوريّة دفاعاً عن نظام دكتاتوري، تشارك معه المجازر والنهب. إذا كان هناك من يجهل أو يتجاهل ما حلّ بسورية، يكفي أن يرى ما حلّ بغزّة، من دمار وضحايا، سيشهد مثيلاً لا يقلّ عنه بإلقاء نظرة على المدن والأحياء وأرياف دمشق وحمص وحلب، الدمار شاهد، والمقابر الجماعية متوزّعة على الأرض السوريّة، وآلاف المعتقلين، ما زالوا في السجون مُغيَّبين قسرياً.
إذا كان هناك من يجهل ما حلّ بسورية، فلينظر إلى غزّة
تخلّى النظام السوري عن فلسطين وقَتْل الفلسطينيّين، مثلما تخلّى عن الجولان وقَتْل السوريّين، ولم يُخفِ توافقه مع المطبّعين العرب. حرب غزّة لا تعنيه. لم ينس وقوف “حركة حماس” إلى جانب الثورة، لم تتصالح معه إلا تحت الضغط الإيراني.
لا يُمكن لومُ السوريّين على كراهيّتهم لـ”حزب الله” ونظام الملالي، ما زالت مليشياتهم تقتل وتنهب في سورية، إنهم قوّة احتلال، ما يُخشى منه انزلاق كراهيّة الشعب السوري إلى القضيّة الفلسطينية، عندئذ تكون إيران حقّقت هدفها.
فلسطين ليست قضيّة إيرانية، إنها قضيّة عربية، وأمرٌ واقع، يستحيل تغييره، ولو تخلّى عنها بعضُ العرب، فلسطين بالنسبة لإيران استثمار سياسي، ضمن مشروع لا يقلّ عن المشروع الإسرائيلي، عابر لن يدوم. وحرب “حزب الله” ليست إلّا دفاعاً عن مكتسباته اللبنانية، خشية فُقدانها. إذا كان ثمّة اتّهام، فيُوجَّه إلى العرب، تركوا فلسطين نهباً لـ”إسرائيل” وإيران.
تأخذ القضيّة السورية طابع القضيّة الفلسطينية، ولا تنفصل عنها بالضرورة، في صمود فلسطين انتصارٌ لسورية، تتشاركان في أنّهما قضايا شعوب لا حكومات.
-
المصدر :
- العربي الجديد