في مكتب التحقيق في مغربال عُلّقت لافتة على الحائط كتب عليها “المخابرات نور السّموات والأرض” ما يشير إلى أنّ التحقيق يشمل السّماء وما ترسله من رسل وأديان.
الشاعر وجامع الهوامش:
على غير ما عودنا فواز حداد في رواياته السابقة من اعتماد حسّ التشويق المرتبط بالخط الدرامي البوليسي الذي ينتهي بمفاجأة تكمن في السطور الأخيرة أحياناً كما في روايته “عزف منفرد على البيانو” أو تشويق يصحب الحدث الدرامي منذ بدايته كما في جند الله”. جاءت روايته “الشاعر وجامع الهوامش” الصادرة عن دار رياض الريس، في 516 صفحة منتهجة خطاً مغايراً وخاصاً ينبع من الصّراع الدّموي الدّائر في سوريا.
لم تهتم هذه الرواية بالدراما بقدر اهتمامها بالتّفاصيل الدّقيقة لحياة السّوريين والمجازر السّورية والقتل المتبادل بين الطوائف تحت مسميات مختلفة.
اختار فواز حدّاد قرية “غير موجودة على الخريطة” لكنّه ألمح إلى تبعيتها لمحافظة طرطوس، سكّانها من الطائفة العلوية، فيها مركز ثقافي نشط يتحوّل إلى مقر للشبيحة.
اختار فواز حدّاد هذه المنطقة لتكون مسرحاً لأحداث الرواية التي حفلت بالنّقاش حول موضوع هام لكلّ الأطراف المتصارعة على الأرض السّورية “الدين”.
ما تقوله الأحداث:
يختار اتحاد الكتاب الشّاعر مأمون الرّاجح ليرأس وفداً من الشّعراء سيقوم بجولة في محافظات القطر بهدف توزيع متعة الشّعر بالتّساوي بين أفراد الشّعب! تلك الجولة كانت فرصة لوزارة الثّقافة كي تدخل الحرب عن طريق “الكلمة”.
يستدعى مأمون إلى مبنى الإدارة الواقع في منطقة المالكي والتابع للقصر الجمهوري. يستقبله المدير خالد ببشاشة ويفسّر له الكيفية التي أصبح فيها شاعراً مهماً: “بعض الأدباء يظنون أنّهم مدينون بنجاحهم للعناية الإلهية في حين أنّهم مدينون لنا”. فكلّ شيء مُخطط له ومحسوب بدقة.
ثمّ شرح له أنّ تعاملهم الخاص معه كان؛ لأنّه اصطنع موقفاً محايداً في مقالاته حافظ عليه وترسخ في الأذهان بحيث أصبح مدعاة لثقة الكثير من القراء. يشعر مأمون بالثّقة ويبدي بعض الآراء الصريحة ويتساءل: “هل سيسقط النظام؟”. يجيب خالد: “إذا كان هناك زمن إلى ما بعد الأبد فسوف يبقى إلى ذلك الوقت، اطمئن”.
لماذا اختاروا مأمون الشاعر الذي ترك الشّعر واكتفى بالكتابات الصحفية لرئاسة وفد من “الشعراء” مع وجود كثير من المؤيدين؟
أوضح خالد بأنّ هؤلاء: “عملاء لنا أكثر من اللزوم يؤيدوننا في كلّ شيء نريد أشخاصا يروننا بشكل أوضح، ولو كان فيه انتقاد لنا”.
يتعرض الوفد للكثير من العقبات في رحلته، تعترضه الحواجز، ويكاد في لحظة أن يفقد أعضاءه حيواتهم.
يصل الوفد قرية مغربال أولى محطات الجولة الشّعرية وآخرها فالصّعوبات التي اعترضت الوفد جعلته يطلب إعفاءه من المهمة لخطورتها الشّديدة، وافقت الإدارة، وعاد الوفد، وبقي الشّاعر مأمون في القرية لينقل لنا ما يدور هناك بين الأهالي وجيرانهم في القرى الأخرى “السنية”.
كان التّركيز أكثر على فكرة الدين فقد ظلّ الدين خلال سنوات الثورة هو السّلعة الأكثر استثماراً على صعيد المتاجرة بقيمه ومبادئه وأهدافه، إنْ من قبل الفصائل المسلّحة أو من قبل النّظام وميليشياته.
دين السلطة
أمّا دين السلطة فيختصر بهيمنة الفروع الأمنية على النّظام وإدارة البلاد. في مكتب التحقيق في مغربال عُلّقت لافتة على الحائط كتب عليها “المخابرات نور السّموات والأرض” ما يشير إلى أنّ التحقيق يشمل السّماء وما ترسله من رسل وأديان. فإذا أضفنا لها مفردة “الأبد” نجد أنفسنا أمام رغبة سوريالية سلطوية دفينة في اختراع دين جديد يوحد السّوريين جميعاً ويلغي هذا التّمايز الطّائفي والمذهبي.
ظهور الدين الجديد للسلطة:
القرية فيها الكثير من العسكر المتقاعدين ضباطاً وصف ضباط، وهؤلاء لم يستطيعوا قبول فكرة انتهاء سيطرتهم وقوتهم المستمدة من منصبهم وأرادوا أن يشغلوا أنفسهم بشيء يجعل لهم سلطة مشابهة لسلطتهم السابقة حين كانوا في الجيش، فلجأوا إلى المشيخة معتمدين على قراءة الكتب الصفراء.
استغل فواز حداد معرفته بما يدور في أوساط المثقفين العلويين من ارتداد بعقائدهم إلى الأفلاطونية المحدثة والفيثاغورثية والإغريقية. وقدّم لنا “الآخر” المؤيد للسلطة والمنغمس في عملية التّدمير والقتل الممنهج، كيف يفكّر، كيف يبرّر جرائمه، لم يضع حاجزاً “من أفكاره ومعتقداته ومشاعره الخاصة” أمام شخصياته بل تركها تعبّر عن نفسها كما هي.
في القرية “الأستاذ النبيل” الذي درّس الشاعر مأمون يوماً ما، في القرية الشاب “كريم” الذي يحمل أفكاراً ورؤية خاصة لمستقبل العلاقة بين الدين والدولة وبين الشّعب والسّلطة، هناك النّاس البسطاء الخائفون من عملية انتقام السّنة في حال سقوط النّظام، هناك حاتم مدير المركز الثقافي المهتم بالشّعر والثقافة، بالإضافة إلى الضباط المتقاعدين والشبيحة، مجتمع كامل بكلّ شرائحه قدّمه فواز حداد في هذه الرواية.
صَهَرَ الشاب كريم الدين والثقافة والعلمانية والروح وأدخلهم في بوتقة واحدة، نفد بذكائه ومساعدة مأمون من الاعتقال. برّر العميد عملية الاعتقال بقوله: “ما الفائدة من الحرية والرأي مادام كلّ شيء واضحاً وضوح الشّمس؟ يخشى أن تنحرف الحريّة، ويدفعهم الرأي إلى حمل السلاح” فهو يرى أنّ العقائد مجرد ترهات!
وهو مالم تره الإدارة في دمشق، هناك كانوا يسعون لمعرفة ما يفكّر به المستشار جامع الهوامش، ويريدون السّيطرة على “الدين الجديد” الذي سيخرج به للناس، الدين الذي يمكن للسلطة تثبيت أقدامها في الحكم من خلاله بطريقة أقوى، ويمكنه جمع كلّ الطوائف والأديان تحت لوائه، وبذلك تنتهي الحرب الطائفية ويتم للنظام السّيطرة النّهائية على العقول ومقادير النّاس.
المستشار جامع الهوامش لا يفصح عمّا يدور في رأسه وما توصل إليه بشأن الدين الجديد، السلطة الممثلة بالإدارة تتخذ القرار الحكيم بهدم المعبد على رأس المستشار.
في النّهاية يتم تدمير بيت “المستشار جامع الهوامش” ويقتل تحت ركام الكتب التي ملأت أركان بيته وفاضت عنه. هدمت الجرّافة البيت فوق رأسه بعد أن اختنق بالكتب والهوامش.
أهو تدمير للفكرة؟ أم تدمير للدين الذي لم تستطع السّلطة انتزاعه من عقل المستشار والهيمنة عليه واستخدامه لصالحها؟
أم هو تدمير لكلّ الفكر الأصولي الحاكم؟