فواز حداد أيقونة الرواية السورية بجدارة، قرأنا له أغلب إنتاجه الروائي عبر عقود. انتصر للحرية والكرامة الانسانية والعدالة والحقيقة والصدق مع الذات قبل الصدق في سرد حقائق التاريخ المعاصر فيما يتعلق بسوريا، ومجتمعها ومحيطها العربي والاقليمي. لذلك انتمى للثورة السورية المشروعة، تابعت رواياته الواقع السوري، بالطبع بحدود ما تسمح أعمال روائية تريد أن تقارب التاريخ وأن لا تتورط بتحولها لكتابة تاريخية. وتنغمس في واقع حياة السوريين، دون التورط أن تكون دراسات علم اجتماع، وسياسة واقتصاد وثقافة.. الخ.
ان الرواية كل ذلك بمقاربة تتماهى مع ذلك كعمل ادبي يبقى منتصرا لهويته الادبية اولا وآخرا…
رسم فواز حداد معالم كتابته الروائية منذ انطلاقتها في رواية موزاييك – دمشق 39. الذي نشرها أوّل مرة عام ١٩٩١م. وتبعها بعد ثلاث سنوات عام ١٩٩٤م بروايته الثانية تياترو 1949. التي استمرّ عبرها مخلصا لرسالته التي تظهر عبر إنتاجه الروائي كاملا، ألا وهي إعادة كتابة تاريخ سوريا أدبيا عبر الرواية منذ ما قبل الاستعمار الفرنسي لسوريا وحتى الآن…
اعترف ان بداية تعرفي على روايات فواز حداد كان في تسعينيات القرن الماضي. وكنت قد اكتشفت قيمة ومتعة المعرفة والاطلاع في كل شؤون الحياة. منذ عقدين قبل ذلك؛ سياسة وعلم اجتماع وعلم نفس وأدب: رواية وشعر… الخ.
لذلك اصبحت أزور دمشق بشكل دوري شهري او نصف شهري قاصدا مكتباتها وقتها النوري ودار الفكر وميسلون والمركز الثقافي العربي بالمزة حيث إصدارات وزارة الثقافة، هذا غير الكتب المستعملة تحت الجسر وبجوار الحلبوني حيث وجدت رواية تياترو 1949 لفواز حداد. لم يثيرني العنوان، قلّبتها، ولأني كنت متلهف للقراءة اخذتها وقرأتها. كانت بداية علاقتي مع روايات فواز حداد. قرأت بعدها رواية موزاييك دمشق 39 ورواية مشهد عابر وكذلك مرسال الغرام. وحاولت بعدها ان اتعرف على فواز حداد في دمشق ولم أستطع، لقد جاءت الثورة وغادرنا كلنا بلدنا…
تابعت بعد ذلك كل رواياته تباعا. وبعد الغربة وامكانية الكتابة بحرية بدأت اكتب عن رواياته كلها تباعا. ثم قررت ان اعيد قراءة ما كنت قد قرأته له سابقا. قرأت مشهد عابر وموزاييك دمشق 39 وكتبت عنهم…
ها أنا ذا أعيد قراءة رواية تياترو 1949 بتذوق مختلف وكأني اقرأها لأول مرّة.
تبدأ الرواية من قلب الحدث السوري في ذلك التاريخ. سوريا التي كانت قد استقلت حديثا. عام ١٩٤٦م. وخاضت حربا مع دول عربية اخرى ضد الكيان الصهيوني عام ١٩٤٨م عام النكبة وخرجت سوريا مهزومة ايضا.
نحن عبر الرواية في قلب مصنع الرأي العام السوري وهو الصحافة، حيث يلتقي الصحفي صبحي مع رئيس التحرير ويعطيه مقالا ينتقد به الجيش واداءه في الحرب مع الصهاينة. رئيس التحرير يرفض المقال وهو يفكر بالرقيب الذي قد يعاقب الجريدة. الصحفي صبحي لا يستسلم يفكر بالبحث عن طريقة اخرى ليوصل بها نقده إلى أوسع دائرة من الناس. يتعرّف على عزوز الدهان وصاحب الصوت الرخيم والممثل المسرحي، الذي يعرفه على المخرج حسن وينقل له فكرته عن مسرحية تنتقد الوضع السياسي العام الذي تعيشه سوريا. جيش معزوم، ورئيس الجمهورية شكري القوتلي مع رئيس وزراء مع مجلس نيابي لا يدرون كيف يتصرفون حيال النكبة. سلاح قليل وفاسد وقادة لا يقبلون أن يعترفوا بهزيمتهم، على رأسهم حسني الزعيم وحوله مجموعة من الضباط…
على مستوى حياة الصحفي صبحي والممثل عزوز والمخرج حسن بدأوا يلتقون ليخططوا كيف يصنعون مسرحيتهم. لكل منهم حياته المستغرق بها. واهمهم كان المخرج حسن الذي كان قد عاش في مصر لفترة طويلة من الزمن، تعايش مع كل متغيراتها السياسية والثقافية والمجتمعية والفنية بدء من العشرينات من القرن الماضي لقد اظهر لنا مدى الترابط الصميمي بين السوريين والمصريين. وان السوريين متواجدين ومنغمسين في قلب مصر. وان مصر منغرسة في وجدان السوريين منذ أزمان بعيدة. عاد حسن الى دمشق ليبدأ رحلة الاخراج المسرحي وكان قد أخرج مسرحية من بطولته حيث مثل دور امرأة ومعه وصيفة فتاة الممثلة نوال وعزوز كانت المسرحية ناجحة ولها روادها. حسن مدمن التمثيل الى درجة الهوس بحيث يستطيع أن يعيش في ذات الوقت شخصيات مختلفة. فهو المخرج حسن. ثم تقمص شخصية السوري حبيب رزق الله الذي عاش وأصبح من اصحاب رؤوس الاموال في مصر ومات هناك. حسن لبس شخصية حبيب رزق الله بالتنكر كاملة وعاش فيها لكثير من الوقت في سوريا متنقلا بين شخصية المخرج حسن والثري حبيب رزق الله…
تداخلت حياة أبطال الرواية مع متغيرات تطال الحال السياسي السوري. الشعب والسياسيون ينتظرون من سيدفع ثمن الهزيمة. والدول الغربية فرنسا وانكلترا تنظر لسوريا على انها مسرح لأدوارهم السياسية. وخاصة ان هناك استحقاقات تنتظر أن يتم حسمها، هناك خط التابلاين للنفط السعودي والسماح له بالعبور من الاراضي السورية الى البحر المتوسط، وهناك ضرورة اتخاذ موقف من الكيان الصهيوني والجلوس إلى طاولة التفاوض والاتفاق على الهدنة بين سوريا والكيان الصهيوني. وهناك تنافس بين دول الإقليم على النفوذ داخل سوريا بين العراق ومصر والسعودية. بالطبع مع فرنسا وانكلترا…
لم يكن امام حسني الزعيم قائد الجيش السوري الا ان يبادر لمواجهة احتمال تحميله الهزيمة وأن يدفع الثمن؛ إقصاء من الجيش ومحاكمة وغير ذلك مما لا يحتمله. لذلك بادر بالقيام بانقلاب عسكري مستعملا الجيش للسيطرة على مفاصل الدولة السورية كاملة. أجبر الرئيس القوتلي ورئيس الوزراء على الاستقالة. وحل المجلس النيابي وجعل نفسه رئيسا لسوريا.
لقد افتتح حسني الزعيم تاريخ الانقلابات في سوريا. أبرم اتفاقا مع شركة التابلاين للنفط لعبور انابيبها القادمة من السعودية إلى الأراضي السورية الى البحر الابيض المتوسط. كما وقع على هدنة مع الكيان الصهيوني. ومع ذلك بدأت تتنازعه الدول المجاورة وفرنسا وانكلترا. كان ينتقل من حبل لآخر ليحافظ على توازنه. اعتمد على جهاز الاستخبارات المسمى المكتب الثاني للتحكم بكل مفاصل الدولة…
أصبح الصحفي صبحي والممثل عزوز والممثلة نوال العشيقة للكل كل الوقت والمخرج حسن بشخصيّتيه حسن وحبيب رزق الله. في صميم الحدث السياسي العام بالصدفة احيانا وبالقصد المباشر احيانا. تواصل معهم الضابط في الشعبة الثانية كسوب، ومن خلال متابعة نشاط الضابط كسوب سنتعرف أحوال الدولة السورية أيام حكم القوتلي والمجلس النيابي والوزارة، وكذلك انقلاب حسني الزعيم وتداعياته و على التجهيزات التي حصلت للانقلاب الثاني الذي قاده الضابط سامي الحناوي واحضر الجيش من الجبهة السورية الى قطنا ومنها الى دمشق وانقض على السلطة. حيث تم على أثره اعدام حسني الزعيم ورئيس وزرائه البرازي…
حيث لم يقبل العراقيين بأفعال حسني الزعيم وساعدت على إسقاطه عبر الانقلاب وتتابعت بذلك سلسلة انقلابات سورية…
على المستوى السياسي ينتهي التحدث بالرواية عند استلام الحناوي السلطة وادعاء أنه سيعيدها للمدنيين…
أما شخصيات روايتنا صبحي الصحفي وعزوز الممثل وحسن المخرج ونوال العشيقة. كانوا في مصيدة الضابط كسوب الذي أصبح بالانقلاب الثاني أكثر قوة. أصبحت نوال عشيقته التي ما انفك يعاشرها في سيارته في أي وقت يتاح له ذلك. وهي تحاول ان تصطاده لعله يتزوجها…
سقطت أمنية صبحي وعزوز وحسن بالمسرحية التي تجاوزتها الأحداث. وأصبحوا جميعا تحت التهديد الأمني خاصة حسن وشخصيته المنتحلة حبيب رزق الله، حيث سجن وأصبح متهما بالتجسس لصالح العراق، ومن ثم أصبح يحلم أن يعود الى مصر بشخصية حبيب رزق الله. وهو حزين على قرينه المخرج حسن كيف سيترك دمشق عشقه الابدي؟ …
تنتهي الرواية عندما يلتقي المخرج حسن بكونه حبيب رزق الله مع المحامي الذي ساعد حبيب رزق الله وأنقذه من السجن وحصل بينهم حوار. حول كيفية انتقال حسن أو حبيب رزق الله الى مصر. وكيف يعيش معاناة شوقه لمصر عندما يكون حبيب رزق الله. وفقدانه لدمشق عندما يكون المخرج حسن…
كثير من التفلسف والحميمية والبحث عن المعنى. ينتهي حديثه مع المحامي عن حلم يتوج بموت يأتي ممتدا ولا ينتهي لصاحبه حبيب رزق الله أو حسن المخرج.
في التعقيب على الرواية اقول:
نجحت الرواية بجانبها المتتبع لشخصياتها أن تزرع في داخلي كقارئ حضورها بكل تفاصيلها. لقد نقلت حميمية الحياة مع ابطالها صبحي وعزوز وحسن وحبيب رزق الله وكسوب ونوال… لقد أصبحوا حقيقيين ولهم حضورهم. المفرح، والمؤلم والممضّ والمأمول. كذلك تظهر الرواية في لغة السرد مقنعة ولا ينقصها التوازن والمصداقية والمحاكاة العقلية والقدرة الرائعة على السجال. وإمكانية طرح مبررات مقنعة لتصرفات كل شخصية. وان الكل لهم الحق في أن يعيشوا وأن يكون لهم طموحهم وان يعيشوا هذا الطموح وأن يعملوا له ، حتى لو كان وهما، الكل يعمل ليصنع ذاته بكل اندفاع وجدارة…
أما على المستوى العام المجتمعي والسياسي الذي يتحرك فيها ابطال الرواية، فهي وثيقة شبه تأريخ للسنوات التي تلت النكبة وما حصل في اروقة السياسة والحكم في سوريا. من النكبة حتى الانقلاب الثاني لسامي الحناوي…
وهكذا تكون الرواية حجرا آخر في مدماك فواز حداد الروائي الذي يبني صورة سوريا الروائية عبر عمارته رواياته المتسلسلة كاملة…
في الختام أقول:
لا ارى أهم من أن تُنقل حقائق الحياة في كل زمان ومكان إلى البشر المتناسلين جيلا بعد جيل حول حياة من قبلهم وحياتهم واحتمالات حياة من بعدهم بصدق وموضوعية وحميمية وإخلاص للحقيقة والمعنى والقيم الإنسانية الخالدة. الحق والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والحياة الأفضل.
الرواية لها دور في ذلك. وروايات فواز حداد نموذج رائع لذلك…
دمت مبدعا فواز حداد روائيا سوريا رائدا…