“تياترو 1949″ رواية فواز حداد��”حسني الزعيم” و “أنطون سعادة” على مسرح انقلابات عام 1949 �رائد محمد الحواري�الاعتناء بالتاريخ وتقديمه بعمل أدبي يعتبر ابداعا مزدوجا، فنجد المادة الأدبية وأيضا المادة التاريخية، وكلنا يعلم أن غالبيتنا تنفر من تناول تاريخنا المعاصر، لما فيه من بؤس وظلامية، فنحن لسنا بحاجة إلى قراءته، لأننا نجده أمامنا، فكل مصائبنا هي نتاج النظام الرسمي العربي، الذي أخفق في كافة المجالات. وإذا ما أضفنا إلى هذا حالة الشرذمة والتجزئة التي نمر بها، وحقيقة عجزه عن تحقيق ما هو فعل عادي، فها هي فلسطين التي أضاعها الحكام العرب تزداد بعدا عن التحرير، وما زال (حكامنا) في صراعات الجانبية، بينما الأوطان تخرب وتدمر وتهجر من سكانها.�في هذه الرواية يقدم لنا “فواز حداد” حالة سورية في عام 1949، وتحديدا آخر فترة حكم “شكري القوتلي” وصعود “حسني الزعيم” إلى سدة الحكم، بعد أن قام بالانقلاب الذي فتح الأبواب على مصراعيها لمن بعده، ليقوموا بعين الفعل، مما جعل تاريخ سوريا المعاصر انقلابات متتالية، فضاع الشعب في أتونها، وهذا ما تنبأ به “رشدي الكيخيا” رئيس حزب الشعب عندما قال: “إذا استشرى داء الانقلاب، فإن سورية سوف تعيش خمسين عاما على الأٍقل كي تقضي عليه” ص114و115.�هذا ما حصل على أرض الواقع، فبعد انقلاب “حسني الزعيم” أصبحت سورية تعيش هذه الحالة، حتى أنها أصبحت أكثر دولة عربية حدثت فيها انقلابات، تجاوزت نتائجها خمسين عاماً.�حيث أن الرواية تتناول الواقع السياسي والعسكري في سوريا بعد هزيمة 1948 وضياع فلسطين، فأراد الكاتب مخففا/مهدئا يسهل عملية تناول هذه الأحداث القاسية والسوداء، فأوجد “حسن فكرت، وعزوز، وصبحي، ونوال” ليقوموا بعمل مسرحية، توازن بين فكرة المسرحية الأولى: “الأوضاع على الجبهة، وصراع السياسيين فيما بينهم”. والمسرحية الثانية: “عن الاعتقال والمعتقلات”، مع الأحداث الجارية على أرض الواقع، تلك هي السمة الابداعية في الراوية، فقسوة الاحداث، توازيها المسرحية وشخصياتها، بالتالي كان الإخفاق الذي لازمها، يتماثل مع الانقلاب، كما أن الأشخاص الذين أرادوا تمثيلها، لا يمتلكون الخبرة اللازمة والقدرات الفنية والمادية والتقنية لعرضها، ما يتماثل مع حالة “حسني الزعيم” الذي أراد أن يدير دولة وهو لا يعرف الفرق بين السياسي والعسكري، فكان له دور في هزيمة 48 واحتلال فلسطين، ومع هذا ـ كان يرى في نفسه ـ القائد المغوار والشجاع الذي يستطيع أن يقود البلاد ويرفع شأن الشعب.�حسني الزعيم�كمدخل، سنبدأ من الشخصية المحورية “حسني الزعيم” يحدثنا الصحفي “صبحي” عن شخصيته من خلال هذا الحوار مع الضابط كسوب: �”ـ هل هذا ممكن حدوثه؟ �ـ ما هو؟�ـ أن يتحالف رئيس الجمهورية مع قائد الجيش؟�ـ سيتحالفان ويضيعان البلد.�ـ إذا كان حسني الزعيم في الحرب قاد العمليات من القنيطرة وهو سكران، فهل يستطيع في الهدنة أن يصحو من سكرة مناصبه ويقود البلاد إلى بر الأمان؟”.�…كان في القنيطرة يتمايل مخمورا ويهزأ من ضباطه” ص24.�هذه صورة قائد الجيش، كحال الواقع الآن، كلما أخفق وفشل مسؤول في مهامه، يحصل على مهام أخرى أكثر حساسية من الأولى، بمعنى أنه يترقى، كأنها حالة متأصلة، نجد نماذج لها في بداية عهد الاستقلال.�بعد أن نجح في انقلابه يقول: “سنقضي على دعاة الشيوعية وذوي المبادئ الهدامة … ونقوي مكانة سورية في الميدان الخارجي” ص116 و117. جميع الانظمة الرسمية العربية قصدت من (مكافحة الشيوعية والمبادئ الهدامة) كل فكر أو جهة تخالف الحاكم.�يرد “الزعيم” على اسئلة الصحفي “صبحي” حول الحرب لاسترداد ما ضاع من فلسطين، فيقول: �”استئناف القتال غير وارد حاليا، الحرب الآن لا تعني إلا إحراجنا، ما زالت قدرات الجيش بعد الانقلاب كما كانت قبله، العتاد والسلاح ينقصانه، نحن بحاجة إلى هدنة نستغلها في تنظيم الجيش وشراء الأسلحة، والأهم تطهير جهازي الدولة والجيش من العناصر المنحرفة، يجب التخلص منهم وابعادهم، إنهم يسعون إلى القضاء على خططنا في الداخل” ص 124. المضحك المبكي في هذا الكلام أننا مازلنا نسمعه وبنفس الصيغة، فهو اللازمة التي يشيعها النظام الرسمي العربي، والسارد أراد بمكاشفتنا بما قيل لنا قبل ما يزيد عن السبعين عاما، أن يقول إن النظام واحد، لا فرق بين نظام ونظام، بين دولة ودولة، كلهم يستخدمون الاسطوانة، نفسها، فلا نبتئس مما يقولون، فنحن نتقبل كذبهم ودجلهم آملين أن يأتينا الخلاص، لكن دون أن نفعل شيئا، فنحن أسلمنا أمرنا إلى الواحد الأحد وإلى أولي الأمر فينا!�من الجميل أن نعرف حكامنا وكيف يتصرفون في الحفلات، حيث أن هذه المعرفة تكشف لنا حقيقتهم، وتزيل الحاجز الذي يفصلهم عنا، فهم في عالم الحفلات يكونوا على طبيعتهم دون أية رتوش أو تزويق، ولو كان ما يقال عنهم من قبيل الاشاعات:�”…الحفلة الساهرة التي اقيمت على شرف رئيس الجمهورية، …أطلق نكاتا غير مبطنة، جعلت وجوه السيدات والآنسات تندى خجلا، ثم ترنح مخمورا وأمر النساء المدعوات بخلع ملابسهن وأن يسبحن عاريات” ص224. �أما نهاية “الزعيم” فكانت بهذا الشكل: �”…موعزا إلى ثلاثة ضباط من الحزب السوري القومي الاجتماعي بتنفيذه، وهكذا تبارى الضباط الثلاثة في الثأر لزعيمهم أنطون سعادة” ص249، �الاعدام رميا بالرصاص كانت نهاية “حسني الزعيم”، مات على نهج وطريقة حكمه التي ماتت، لكن هل انتهى عهده أم إننا ما زلنا نعيشه؟ وهل المشكلة كانت في شخص “حسني الزعيم” أم في نهجه وطريقة تعامله وتصرفاته وتناوله للقضايا الوطنية والقومية؟ رغم أن الرواية تنهي فترة حكمه بالإعدام، إلا أن نهجه استمر بعد أن أطاح به “سامي الحناوي” الذي أستمر في التحكم في مسار حكومة “هاشم الاتاسي” من خلف الستار.�انطون سعادة�قيل أن بعض الوثائق التي أفرجت عنها وزارة الخارجة الأمريكية في الآونة الأخيرة، تتحدث أن “المخابرات الامريكية هي من ساعد ودعم “حسني الزعيم” للقيام بانقلابه، وكان الهدف منه التعاون والتحالف مع الحكومة اللبنانية للقضاء على “أنطون سعادة” والحزب السوري القومي الاجتماعي، يكشف لنا السارد ـ من خلال شخصيات الرواية ـ ما جرى من أحداث والطريقة التي سلم فيها “سعادة” للحكومة اللبنانية، حيث نجد ذكراً لـه في صفحات متفرقة، ما يشير إلى مكانته واهمية الدور الذي كان يمكن أن يقوم به، لو بقى على قيد الحياة، فنجده شخصية مثيرة للاهتمام في الرواية:�”…لماذا منح الزعيم حق اللجوء السياسي لأنطون سعادة؟! �ـ نحن وسعادة على طرفي نقيض. �لم يثر اسم انطون سعادة اهتمام نوال، لكن مغامراته الجريئة هزتها، نجاته من الهجوم المسلح الذي شنه حزب الكتائب على مكاتب صحيفته، وإفلاته من مداهمات قوات الشرطة اللبنانية لبيته ومراكز حزبه، اجتيازه الحدود السورية ووصوله إلى دمشق” ص158.��هذه المعلومات عن “سعادة” تثير المتلقي كما أثارت “نوال” فالحديث يدور عن شخصية استطاعت تحدي النظام الرسمي العربي، المتمثل بالحكومة اللبنانية، والإفلات من كل الملاحقات التي تعرض لها، أليس هذا مثيرا للاهتمام؟�وهناك معلومات عن أفكار سعادة، فهو ليس برجل سياسي فحسب، بل رجل صاحب فكر: �”…دعوته “سورية للسوريين، وتحرره من القومية العربية والدين واللغة، السوريون أمة تامة يشكلون وجودا قوميا متميزا، طموحه السياسي يفوق طموح نوري السعيد في وطن حدوده سورية الطبيعية، ويشمل سورية ولبنان والعراق والأردن وفلسطين، وهلال سوري خصيب جزيرة قبرص نجمته، متوغلا في تاريخ يمتد آلاف السنين، متكشفا الإرادة العامة للامة السورية، والارتباط العضوي بين الأمة وحدودها الجغرافية الطبيعية، والوحدة العضوية للمجتمع السوري.�…رجل عنيد قوي شكيمة، لم تفلح سلطات الانتداب الفرنسي من قبل والسلطات اللبنانية من بعد، في جعله يتراجع عما اعتزم عليه، رجل أفكار غامضة، مقدرة هائلة وعجيبة على جذب الشباب، خاصة المثقفين، إلى صفه وتحت قيادته.” ص159. �هذه المعلومات لم تأت جزافا، بل أراد السارد التعريف بـ “سعادة” وافكاره وحزبه، فشخصية بهذه الصفات تحمل أفكارا متحررة عن القومية والدين واللغة، بالتأكيد تثير الاهتمام، فكيف يتحرر من الدين واللغة والقومية ودعوته قومية؟ إذن هناك دعوة قومية مبنية على اسس غير تلك التي نعرفها، وحدودها غير تلك التي قيل لنا أنها من المحيط إلى الخليج، وعلينا نحن المتلقين أن نعرف حقيقة هذه الدعوة من خلال الاطلاع وقراءة ما كتبه سعادة نفسه.�كما يتعمد السارد أن يقدم (ومضات) عنه والهدف منها دفع القارئ للتعرف إلى “سعادة وفكره وحزبه”: حتى لحظة إعدامه!!�”…مضمون البلاغ اللبناني، أن السلطات اللبنانية قبضت على أنطون سعادة وحاكمته بتهمة الخيانة العظمى ثم اعدمته، وكل هذا تم خلال أربع وعشرين ساعة، أما فحوى البيان الحكومة السورية فهو، لم تسلم سورية أنطون سعادة إلى لبنان وإنما أوقف فوق أرض لبنانية” ص166.�إذا كانت الرواية انتهت بمقتل “الزعيم” فإنها استمرت بعد مقتل “سعادة”، وكأن موته أعطى الأحداث دفعة جديدة نحو مشهد ما بعد مقتله، محفزا القارئ على معرفة المزيد عن رفاق “سعادة” بعد أن أعدم، فهل انتهى حزب سعادة بمقتله؟ أم أنه ما زال حيا كما أحيا الاحداث في الرواية؟ اعتقد أن السارد أراد أن يقول إن “سعادة” هو الشخصية المحورية الثانية في الرواية، واختلق هذا الشكل ليقدم لنا شخصية كانت لها اهميتها في زمانها، لهذا تآمر عليها النظام الرسمي العربي في الأردن وفي سورية وفي لبنان وفي العراق وفي مصر، فهي الشخصية التي سببت الازعاج للإنجليز والفرنسيين معا وبالتأكيد لأعوانهم في المنطقة أيضا. �مقتل “سعادة” لم يكن حدثا عاديا، بقتله حقق الغرب إنجازا مهما، ازالة شخص مبدئي ومفكر وقومي من الوجود، بحيث تخلو لهم الساحة، لكن السارد يبقي “موت سعادة فاعلا في أحداث الرواية، وكأنه بهذا الأمر أراد أن يقول إن “سعادة” حتى بعد مقتله يبقى فاعلا ومؤثرا وحاضرا، من هناك نجد الضابط في الشعبة الثانية “كسوب” يتحدث عن مقتل سعادة بحرقة وألم:�”ـ لقد غدروا به�قالها بلهجة قاطعة، وكأن الذين أعدموا سعادة، غدروا به قبل محاكمته” ص168، �لنتوقف عن هذا الضابط الذي يمثل النظام الرسمي العربي بكل سلبياته، كيف يقف موقفا ايجابيا من سعادة؟ ولماذا هذا الموقف؟هل هو بسبب خيانة “الزعيم” له؟:�”ـ قبضوا عليه هنا في دمشق، وبعثوا به مخفورا إلى الحدود السورية، وهناك جرى تسليمه، كان كل شيء جاهزا، المحكمة والإدانة والإعدام” ص169. �تناول مقتله يشير إلى المكانة التي احتلها في تاريخ المرحلة وما بعدها، لهذا نجده ربط التاريخ وأحداث الراوية بمقتله:�”وازدادت سوءا بلقاءاته الروتينية مع الملازم كسوب، اكتست بالجفاء منذ اعدام سعادة”198، �المسرحية�الحدث الموازي لانقلاب حسني “الزعيم”، هو المسرحية التي يعدها كلا من “صبحي وعزوز وفكرت ونوال”: �”أعلن صبحي ما جال في خاطره، مسرحية يتشاركون فيها ثلاثتهم، عزوز يمثل دور البطل الرئيسي، وحسن فكرت يخرجها، أما هو يكتبها، مسرحية بعنوان “شهداء الوطن” ” ص31.�وإذا ما توقفنا عند هذه الشخصيات نجدها غير ناضجة عمليا لعمل مسرحية، “صبحي” صحفي وليس بمؤلف مسرحي، “فكرت” شخصية عاشت في مصر وتعشق المسرح، ويمكننا القول إنه الوحيد الذي له علاقة بالمسرح، أما “عزوز” فهو رجل بسيط لا يمتلك إلا صوته الجميل، وليس لديه أية فكرة عن التمثيل والفن المسرحي، “ونوال” يجدونها المرأة الوحيدة التي تقبل أن تمثل، فالمتاح أمام (الفرقة) من النساء “نوال” فقط �أما أحداث المسرحية فهي:�”مشهد في الجبهة، جنود فوق أرض قاحلة بين الخنادق والخيام، يتقلبون على الطين والسخام، تصك أسماعهم أصوات الرصاص ودوي القنابل وأنات الجرحى، مشهد في مكتب الوزير حيث تعقد صفقات الأسلحة طمعا بعمولاتها، بينما في الجبهة أبطال يضحون بحياتهم ولا يبخلون، تكشف فصول المسرحية عن حقائق مروعة، جيش يدفع إلى الحرب دون تجهيز، يتقدم ولا يتراجع، يبذل الغالي، وحكومته تتشدق بشعارات الحرب” ص31و32.�تعكس فكرة المسرحية واقع حال ما يعيشه المواطن العربي في عام 1948 في ظل الحكومات والمتنفذين.�(حسن فكرت/حبيب رزق الله) هما شخصية واحدة في الرواية، فقد أعجب حسن فكرت بالمحسن الكبير الشامي المتمصر حبيب رزق الله، وحاول أن يحقق أمنيته بعد موته، بالذهاب إلى مسقط رأسه في دمشق التي أحبها. هناك يتقمص شخصيته، ويقوم بوضع مكياج، فيغير من هيئته. يتم القبض عليه في اليوم الأول لانقلاب “حسني الزعيم” وهو في هيئة “حبيب رزق الله” من قبل الضابط “كسوب” ويتم زجه في المعتقل، وبعد أن يراجع “كسوب” نفسه يجد أن حكم الإعدام بحق “حبيب/فكرت” ظلم كبير، فيعمل على إرساله إلى سجن مدني، وينساه هناك، حيث يقضي ثلاثة شهور كاملة. يتدخل الصحفي “صبحي” عند “الزعيم” ليفرج عنه. يتم البحث في كل السجون، لكن لا يوجد لهذا الاسم أي وجود، ثم ينجح أحد المحامين بإيجاده وإخراجه من المعتقل.�في الوقت ذاته ـ يتذكر “كسوب” أنه وضع رجلاً في المعتقل ـ واعدا إياه ـ أنه لن يمكث فيه إلا بضعة أيام، فيذهب لإخراجه، يخبره آمر السجن، أن أمر الأفراج عنه جاء من “الزعيم نفسه”.�بعد خروج “حبيب-فكرت” من السجن يتعرض لمحنة جديدة، حيث يسأل “كسوب” السفارة المصرية عن “حبيب رزق الله” تخبره السفارة أنه ميت منذ سنين، وتبدأ ملاحقة “فكرت/حبيب” من جديد بتهمة انتحال شخصية “وهمية” والدخول إلى سورية بطريقة غير مشروعة، ويبدأ “كسوب” الذي يمثل النظام الأمني العربي في طرح أفكار خارج المنطق، وتجعل من “حبيب/فكرت” عميلا وجاسوسا وشيطانا يجب القبض عليه. هنا تأخذ الرواية منحى الروايات البوليسية، فكان التشويق أهم معلم في الرواية، وهذا ما جعل تناولها سهلا وممتعا، يتم توضيح ما جرى للضابط “كسوب” ويصدر قرار بالإفراج عن كافة المعتقلين في عهد “الزعيم” والكف عن ملاحق المطلوبين بعد نجاح الانقلاب الذي قام به “سامي الحناوي” حيث يقتنع “كسوب” أن “فكرت/حبيب” شخصية منسجمة مع ذاتها ومع مبادئها. وبعد تجربة الاعتقال يحاول “فكرت وعزوز ونوال” عمل مسرحية تتحدث عن الاعتقال والمعتقل، تشير إلى أن الفن صادق مع نفسه، يعكس هموم الناس من خلال الاعمال الأدبية والفنية. �فساد السياسيين والعسكر�كحالنا اليوم، لم يكن السياسيون في بداية الاستقلال أفضل مما هم الآن، فكلاهما انتهازي يتاجر بالشعب وبالوطن لتحقيق مصالحه الشخصية، فبعد هزيمة 48 نجد (قادة الأحزاب) على هذا النمط: �”…حتى الأحزاب التي تندد بالدول الكبرى وتطالب بمتابعة الحرب، وتقيم الدنيا ولا تقعدها بالمظاهرات، تجد قادتها في جلسات البرلمان السرية والمغلقة يقولون لننسحب من الأراضي التي احتللناها كي لا نعطي اليهود ذريعة لمهاجمتنا” ص 30.�هذه الحقيقة كشفت عن أحزاب وتنظيمات كانت تدعو للحرب ولتحرير فلسطين، ما أن وصلت حتى خبت تلك الدعوة ونامت، وأصبح (الواقعية والظروف الموضوعية) هي الأفكار المناسبة الصحيحة. �أما عن “سامي الحناوي” فأثناء التحضير لانقلابه على “حسني الزعيم” كان يحتاط في حال فشل انقلابه:�”…قد أعد العدة، في حال إخفاقهم في القبض على الزعيم، سينطلق إلى مطار المزة، كانت هناك طائرة جاهزة لنقله إلى العراق بصحبة معاونه ومرافقه، تاركين الانقلاب والضباط لمصيرهم، مخالفا خطة الانتقال إلى خط الدفاع” ص249. �هكذا هو حال السياسيين والعسكريين، لا يلتزمون ويخلصون إلا لأنفسهم، وما دونهم فليذهبوا إلى الجحيم. وبعد أن نجح الانقلاب، نجد “الحناوي” يعمل حسب مصلحته الشخصية من خلال: “…عزل موظفين وأحال آخرين إلى التقاعد، وعين أقرباءه وأعوانه في مناصب عالية وحساسة” ص252.�كذلك حال العسكر، فهم جزء من التركيبة نفسها، ولهم نصيب فيما آلت إليه أحوالنا وخاصة في ضياع فلسطين.�”… أوعز الضابط بالرمي، المدفع الأول لم تخرج القذيفة منه، المدفع الثاني تكشف عن عطل ولم يطلق، أما الثالث فلم يصب الهدف، وأعيدت التجربة مرة ثانية دون جدوى، كانت المدافع غير صالحة والذخيرة فاسدة. �…طلب الرئيس من أمين المستودع مقلاة وبيضة موقد كاز، وضعت معلقة من السمنة في المقلاة، حميت وترشرشت، وتصاعدت منها رائحة كريهة، … وعندما ارسلت إلى المختبر وظهر أنها مغشوشة وضارة، وأقف على أثرها العقيد رئيس لجنة العقود وأعضاء لجنة الاستلام والتجار موردي السمنة” ص69. �ما يوضح سبب هزيمة الجيوش العربية في حرب 48، فلا توجد اسلحة للقتال، ولا تموين صالح للأكل، فبأي شيء سيحارب الجندي العربي؟�أخلاق السياسيين كأخلاق العسكر، فالعسكر لا يقبلوا أن يكون السياسيون وحدهم من يستمتع بخيرات البلاد والعباد، وها هم (جنودنا) يعطوننا صورة حقيقة لحماة الوطن: �”…يهذرون بالكلمات البذيئة ويتخلقون المنازعات، يتحرشون بها وبرفيقاتها، يتحككون بهن ويقرصون زنودهم، ويلاحقونهن في ظلام الحارات بالصفير والحراس الليليون يتوارون خيفة منهم في الدخلات الضيقة، حتى ان العسكر الذي دخلوا الصالة في اليومين الماضيين، كانوا أكثر وقاحة ورعونة ممن سبقهن، ولم يتجرأ أحد على ردعهم، إذ لم يعد هناك ما يخشونه” ص117. �هذه التصرفات تشير إلى أنننا أمام (عصابة) وليس أمام جيش الشعب، فالجنود (لحماية الوطن والمواطن) والمفترض أن يدافعوا عن المواطنين، لا أن يكونوا المعتدين عليهم والخارجين على القانون، لكن بما أن الجندي الرسمي العربي، يدخل الجيش بالواسطة، لما في الجيش من امتيازات، فسيكون ـ وهذه نتيجة طبيعية ـ جزءاً من النظام الفاسد.�المخابرات والاعتقال السياسي�المخابرات في الدول العربية ليس لها شغل إلا ملاحقة الموطن ومراقبته، وإذا ما صدر منه قول أو فعل مخالف أو معارض، فاللعنة تلاحقه إلى يوم الدين، ويختم على جبينه بختم (العبودية) بحيث يحرم من كافة حقوق المواطنة، فيمنع من التنقل/السفر، ويحرم من العمل في أية مؤسسة حكومية، ويتم اعتقاله دون محاكمة، حسب رغبة الضابط المسؤول، لنستمع إلى (الجريمة العظيمة) التي اقترفها “حسن فكرت/حبيب رزق الله”: �” ـ هذا الرجل الذي يدعي حبيب رزق الله محتجز حتى هذه اللحظة في سجن قلعة دمشق، وأين؟ في السيلول، ارتكب مخالفة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، مخالفة مهما بالغنا في وصفها، تعد تافهة جدا، خرق منع التجوال، منع لم يستمر أكثر من ساعات معدودة، خرقه كل من هب ودب، فيما خرج رؤوس الدولة من السجن ومعهم قادة الاحزاب، ولحقهم السياسيون المرتزقة والمرتشون، بالإضافة إلى المتلاعبين بقوت الشعب، وما زالوا يحتجزون هذا الرجل المنكود مع أسوأ أنواع المجرمين العتاة” ص 170.�ما يحسب للرواية أنها تكشف لنا حقيقة النظام الأمني العربي منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، فمنذ نشأته يعامل المواطن (العادي) بطريقة سيئة، فرغم أن النظام يتجاوز عن المخالفات التي تعد خيانة للوطن والمواطن، إلا أنه يتمسك بالقوانين ويعاقب بشراسة المواطن على أمور تعد (بسيطة وتافهة) هذا حالنا منذ رحيل (الاستعمار) إلى يومنا هذا.�يقدم لنا السارد طريقة تفكير رجل الأمن العربي، وكيف يستخلص النتائج اليدين المواطن: �”ـ أنك تتحمل نصيبا لا بأس به مما حل بك، هناك أمر محير، لماذا لم يطالب بك أحد؟!، أعني لماذا لم يسأل عنك أحد من أقربائك أو أصحابك؟ كما أنك لا تحمل ما يثبت شخصيتك، أين هويتك الشخصية؟�ـ ضائعة.�ـ أنت ترى، ليس هناك ما يدل عليك، كان من الممكن أن تقضي نحبك في السيلول مجهولا منسيا” ص 182�هل تغير أو تبدل خطاب رجل الأمن العربي، من أيام “حسني الزعيم” إلى غاية هذه الساعة؟ هناك عقم عقلي عند رجال الأمن الذي لا يحسنون إلا التشكيك بالمواطن وإخلاصه، بينما هم غارقون في الفساد وفي الرشاوي وفي السفالة. ولنرى كيف يتصرف رجال الأمن العربي عندما يريد أن يلاحق أحد المطلوبين: �”…عمم أوصافه على مراكز الحدود، رجل تجاوز الخمسين من عمره، معتدل القامة، نحيل، يرتدي بذلة أنيقة لافتة للنظر، لونها غامق، قنيص فاتح، صدرية وطربوش، شعر رأسه يخالطه الشيب، أنف كبير، شفتان رقيقتان، وشاربنا كثان، أما الاسم فلا يهم، لكن تجنبوا الشخصيات المعروفة” ص205�أليس من المسخرة أن يتم ملاحقة كل رجل يحمل هذه الصفات؟، فكل من يحملها مطلوب للأمن، حتى لو كان هناك ألف رجل، فجميعهم مطلوبون ومطاردون ومحتجزون إلى أن تثبت براءتهم، لكن علينا ألا نبتئس مما يحصل، هذا نهج مورس على أجدادنا منذ ما يزيد عن السبعين عاما، وعلينا أن نتقبله بصدر رحب!�ضمن هكذا واقع لا بد من تمرد/ثورة حتى لو جاءت بشكل (انتحار) فلا بد من الرد على هذا الواقع الامني الرسمي المتخلف، يقرر “فكرت/حبيب” مواجهة الضابط “كسوب” مهما كانت النتائج، فيجري بينهم هذا الحوار:�”ـ لقد نبذت فكرة روايتها لك، بعد أن قضيت ساعات مؤرقة، راجعت فيها حياتي وحياة حسن فكرت، واكتشفت أن العلة ليست في هذا اللبس، وإنما في قضية ملفقة ومغلقة باتت أقرب إلى التصديق من حكايتنا، هذا الخيال المتجني الذي أقرف منه أنا منه، هذه القضية تبقى هاجسك أنت، ومشكلتك أنت.�ـ مشكلتي أنها من صميم عملي ومسؤوليتي.�ـ كيف يكون الاستاذ فكرت متهما البارحة، وبريئا اليوم، ومطلوبا غدا؟!�ـ نحن لا نفهم الأمور على هذه الشاكلة.�ـ ثم تحضه على السفر وتمنعه من العودة” ص259.�عقم الحوار مع رجل الأمن، الذي جُبل عقله على تنفيذ الاوامر والتشكيك بولاءات الناس دون أي دليل، فرغم تناقض موقفه وتحليله إلا أنه مصر على الاستمرار في نهج مطاردة الناس بلا دليل قانوني يدين “فكرت/حبيب”. وهكذا انعكس دور “كسوب” الوظيفي “كسوب” على طريقة تفكيره وسلوكه، بحيث أصبح نهج الاتهام أمرا عاديا عنده.�بهذه الخاتمة، يمكننا القول ان السارد أرادنا أن نقف أمام حقيقة واقعنا، ليس في سورية فحسب، بل في المنطقة العربية أيضأ، فحال سورية ـ في الحريات ـ لا يختلف عن أية دولة عربية، فـ “ما العمل” على رأي لينين؟ وكيف نقنع الضابط “كسوب” الآن بأنه يجب عليه التخلص من طريقة تفكيره العقيمة، وأن العصر يسبقنا، وعلينا ـ بالحد الأدنى ـ أن نوقف هذا التقهقر والتراجع، ونتقدم ولو بطيئا إلى الأمام؟