رواية (يوم الحساب) تدخل إلى العلاقة بين المسيحيين والأكثرية السنية خلال الثورة
يتابع الروائي فواز حداد في روايته (يوم الحساب) الصادرة عن (رياض الريس للكتب للنشر) في طبعة أولى عام 2021، يتابع مشروعه الروائي الشجاع في تشريح الواقع السوري وهو يواجه امتحان الثورة ومخاضها الإنساني والقيمي قبل السياسي. أجل فقد كانت الثورة السورية امتحاناً لكل الثوابت والقيم والعلاقات التي تشكل اللوحة الديموغرافية السورية.. وهي في الوقت ذاته امتحان شائك لكل من يكتب عنها، ويسعى للغوص عميقاً في مسبباتها ومساراتها ومآلاتها، سواء أكان جزءا منها، مؤمناً بها وبحتميتها، أو كان معادياً لها وإن لم يكن يتبنى رواية النظام المحشوة بالأكاذيب في إنكارها بالضرورة.
في رواية (يوم الحساب) يدخل فواز حداد إلى العلاقة بين المسيحيين والأكثرية السنية من خلال العلاقة مع النظام من جهة، والمواجهة بين الثورة والنظام من جهة أخرى. يأخذنا إلى حي باب توما المسيحي في دمشق، من خلال حدث اختفاء الشاب (جورج أيقوني) بعدما قطع دراسته في باريس وعاد إلى سورية، ثم انقطعت أخباره حتى عن أسرته، لتلحق به أستاذته الجامعية السورية الأصل (رحاب) التي تحمل الجنسية الفرنسية، محاولة اقتفاء أثره والكشف عن مصيره.
مرثية دمشق الثورة
في رحلة الكشف عن هذا المصير الغامض، تتجه الشكوك مباشرة نحو نظام الأسد باعتباره صاحب السلطة المخابراتية الأسوأ، والسمعة الأسوأ في عمليات الاعتقال والاختفاء القسري وما يتبع ذلك من مصير مجهول قد ينتهي بالموت تحت التعذيب.. لكن هذه الرحلة سرعان ما تتوغل عميقاً في بنية النظام والثورة معاً، لنرى صورة الثورة المغدورة التي فرط بها العالم بأسره، وقد استحالت إلى ظلال منكفئة لمد ثوري زاخر كان ينشد الحرية والتغيير.. فإذا به يُمسي حلقة ضيقة لمجموعة من الناشطين المتخفين والملاحقين، الذين يبدّلون أسماءهم وأماكن سكناهم وحساباتهم وأرقام هواتفهم، يطاردهم هاجس الاعتقال في صحوهم ومنامهم، والأمل بالنجاة من الوطن والبدء بحياة جديدة خارج حدود سجنه الكبير وهم يعيشون صراع البقاء أو الرحيل.
بشكل من الأشكال يكتب فواز حداد مرثية للثورة في دمشق في زمن مدها السلمي الذي جمع ناشطين من أبناء المدينة ومن شتى الطوائف. صورة طالما أنكرها أبواق النظام للقول إن الثورة لم تمر على دمشق، مثلما أنكرها أنصار الثورة من أبناء الريف وبعض المدن الأخرى لوسم الدمشقيين بالتخاذل جرياً على عادة النظام في تغذية الشائعات وتضخيم الحالات الفردية التي تشيع أن الدمشقيين مؤيدين له بالمطلق، وأنه لولا تأييدهم لما استمر في الحكم كل هذه العقود.. وهي مقولة باطلة ينفيها لجوء النظام للعنف الدامي في غير مرحلة من تاريخه، واستعداده الدائم لارتكاب المجازر وفتح السجون ونشر جيوش من المخبرين وتشريع التعذيب حتى الموت في معتقلاته، إذ لو كان تأييد الدمشقيين وحده يكفل له الاستفراد بالحكم لما اضطر لهذا كله.
بطل الرواية (حسان) ناشط من أبناء المدينة، يعرف نفسه في السطر الأول من الرواية: “أنا شخص ميت في حماية شهيد (….) الاسم الذي أحمله استعرته من شاب شهيد/ أستخدمه بكثير من الحيطة. أنا لم أرتكب جريمة، ما فعلته تنظيم مظاهرات وبعض الأعمال الإغاثية، وساعدت الكثيرين من أصدقائي الملاحقين على النجاة من الاعتقال. كنتُ من شباب التنسيقيات”
أما صورة دمشق التي كانت تنسيقياتها ناشطة في نقل أخبار الثورة وصور مظاهراتها وابتكار شتى الأفكار للتعبير عن حضور الثورة في وجدان المدينة المتوجسة من بطش النظام، فهي تبدو بالنسبة لبطل الرواية على النحو التالي:
” لم تعد دمشق مكاناً صالحاً للعيش. إنها معسكر اعتقال. ما الذي يربطني بمدينة أصبحت معالمها؛ الكتل الإسمنتية واستحكامات الأكياس الرملية والحواجز العسكرية ونقاط التفتيش، وصور الرئيس على جدران الشوارع والوزارات والمؤسسات والمكاتب والمدارس والجامعات والممرات والدهاليز والأشجار والسيارات والمحلات. لم يعد هناك من فراغ في بلد، إلا ويتسلط عليه القتلة، يلوحون بشعارات الوعيد والتهديد: “الأسد أو نحرق البلد”، “الأسد أو لا أحد”.. لن ننجو منهم إن لم نركع، ونطأطئ الرأس لسلطته المطلقة وسلالته إلى الأبد؟”. ص (14).
في هذه المحيط المسكون بالخوف والغربة تعيش دمشق، ويعيش (حسان) قصة حب مع (ريما) هي أيضاً ناشطة من أبناء المدينة.. يجمعهما الانتماء للثورة وشريط ذكرياتها المحترق، ويهددهما رغبة (حسان) بالخروج من الوطن، وإصرار (ريما) على البقاء حتى لو على حساب حبهما.
الوطن وهماً أم حقيقة؟
ليست دمشق هنا مدينة الياسمين والسحر والذكريات والحارات والأزقة الدافئة، إنها اختزال لوطن يخاطبه (حسان) بالقول: “أيها الوطن، لست أكثر من وهم عذب وشاق” وعلى مدار صفحات الرواية يحاول الوطن أن يخرج من إطار الوهم إلى حقيقة القضية ونبلها. قضية تغيير معادلات الشقاء التي باتت تحكم وجوده. ينجح فواز حداد بأستاذية رفيعة في أن يخلصه من الشعارات واللغة العاطفية الإنشائية الرثة، يجعله ملكاً للجميع ومسؤولية الجميع.. يقدم صورة الناشط العلوي (سومر) بحب وإيمان ولو باعتباره استثناء، ويجعل من (جورج أيقوني) أسطورة انتماء وبقاء وشهادة.. وحين يحتدم النقاش النقدي المؤلم حول ما آل إليه هذا الوطن، بين (سومر) و(حسان)… يقدم لنا فواز حداد مرافعة بليغة حول خيار البقاء الباهظ الثمن والتكاليف:
” لم يعد ينفع شيء في سورية، بلد غير قابل للشفاء، بلد يتفتت، تنخر فيه أحقاد أديان ومذاهب متوهمة، تتعيش منها وعليها ميليشيات وجنود وشبيحة يذلون الناس وينهبون جناية عمرهم. إذا كان هذا مآل سورية فلتتمزق وتحترق، وليتقاسموها أرضا خراباً. أنا لا أريدها. كان الغضب قد بلغ بي أشده، بينما كان سومر ينظر إليّ معاتباً، فلم أوفره من غضبي: ما الذي تنتظره، الاختباء ما فضل من حياتك في جحر، هذا إن لم تعتقل؟ عندئذ لن يفوتك أن يعطيكم ضابط نذل درساً في الوطنية، ثم يتبارى الأوغاد في تمريغ كرامتك بالوحل، بعد ذلك، وأنت الأدرى مني، لن يستثنوك أنت العلوي. سيبالغون بتعذيبك حتى تتمنى الموت ألف مرة، سيفرمونك ويرسلونك أشلاء من لحم وعظم إلى الضيعة، ستضطر عائلتك إلى إنكارك، ويحتفل الأهالي رغماً عنهم بقتلك شر قتلة. هذه هي الوطنية التي سيُحتفى بها. ماذا أكون أنا وأنت في تصنيفاتهم؟ أنا الطائفي، وأنت الخائن. قل لي ما الذي تأمله؟ فلتذهب سورية إلى الجحيم. وقف سومر، بصره معلق عند المدخل، التفت نحوي وقال: نحن من أجل أن نغير هذا كله. ومضى ” ص (329).
حبكة بوليسية ودراما تشريحية
تضفي عملية البحث عن (جورج أيقوني) التي تقودها أستاذته الجامعية العائدة، حبكة بوليسية مشوقة على الرواية.. لكن هذه الحبكة القوية، يتم توظيفها ببراعة في رحلة الكشف الاجتماعي والسياسي المتعدد المستويات والأبعاد. يدخل فواز حداد البيئة المسيحية السورية ماراً على بيت العائلة والكنيسة وسلطتها الروحية علاقتها برعاياها، وعلاقات هؤلاء الرعايا بالسلطة، وباتجار هذه السلطة بمفهوم حماية الأقليات.
لكن هذه الأبعاد والمستويات كلها، لا تكتسب بعدها التشريحي الحقيقي إلا في مرآة علاقتها بالأكثرية السنية أو في مختبرها على الأصح. هذه العلاقة التي يعالجها فواز حداد بجرأة وشفافية، بعيداً عن المثالية الكاذبة وعن حالة التآخي الظاهري وعن صورة الخوري والمطران الذي يسير جبنا إلى جنب الشيخ أو المفتي ليرفعا الصليب والهلال. على أن هذه الشفافية لا تقود في النهاية إلى كشف حالة عداء مستتر بالضرورة وإن أظهرت حالة التناقض الدينية الطبيعية في الشعائر والمعتقد.. ولعل البديل الذي تقودنا إليه الرواية هو تآخي المصير الإنساني بين المسلم والمسيحي السوري الذي يصنعه عسف الاستبداد وبطشه وجوره. إنه إخاء المصير المشترك الذي يلتقي في النهاية عند عذاب قلب الأم، مسيحية كانت أم مسلمة، حين يجتمع جسدا ولديهما الذي قلتهما قناص النظام في قبر واحد يصعب فصل.
فالمصير الذي تقود إليه عملية البحث المضنية التي يتدخل فيها ضباط النظام والكنيسة والقصر الرئاسي وبقايا نشطاء التنسيقيات المتخفين الملاحقين، يقول إن (جورج أيقوني) قتل برصاص قناص النظام لدى قيامه بنشاط إغاثي في (دوما) بريف دمشق، مع صديقه (أحمد العمري) الذي حاول إنقاذه، وإن الاثنين دفنا في قبر واحد في مقبرة ذو الكفل بمنطقة الشيخ محيي الدين بدمشق، بعد أن تم تغيير اسم (جورج) إلى (عمر) درءا لمخاطر أمنية. فيما تظهر صور الفيديو الذي تمكن الناشط (سومر) من الحصول عليه (جورج) وهو ينطق الشهادة على الطريقة الإسلامية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
بمقدار ما تبدو المعضلة دينية للوهلة الأولى.. وبمقدار ما تتشح بدموع وانفعالات الميلودراما التي تنخر بنية الموقف الأمومي، إلا أنها سرعان ما تكشف عن جوهرها التراجيدي النبيل، برمزية مذهلة تتألق كموشور من الكريستال. في كل زاوية منها رؤية جديدة، وفكرة ملهمة، وانعكاس عميق لجوانب يصعب اختزالها في وجه واحد.
مسيحي في قبر مسلم!
الأسئلة التي تطرحها أم جورج تبدو مثيرة للاهتمام، مسكونة بلوعة فقد وحيدها مرة.. والشك بفقدانه كمسيحي مؤمن مرات.. ولعل الحل الفني لهذا الإشكال الدرامي يكمن في معالجة شخصية الأم وإسباغ صفة الإيمان العميق عليها الذي لا مساومة عليه. إنها امرأة ابنة بيئتها، متعلقة بمسيحيتها ومؤمنة بها كل الإيمان. لا تنكر الدين الآخر ولا تتحدث عنه من منطق الكراهية، بل من منطق الاعتداد بهويتها الدينية، والشعور بالخطر إزاء الشك بفقدان ابنها لهذه الهوية:
” المصيبة أن ابنها سلب منها لمجرد أنها شاهدت الفيديو. تمت مذهولة:
– بدلتم دينه، هل بدلتم اسمه؟
– مهما كان اسمه، أصبح الشهيد
قالت متحسرة:
– ليتني لم أعرف، كان بقي مسيحياً
– صديقه أراد له الجنة.
قالت وقد علا صوت بكائها:
– إذا كان مسيحياً سيظفر بالخلاص، أما إذا كان مسلماً فما الذي سيحصل له؟ أنتم تتقاتلون فيما بينكم.
– إنه شهيد جميع الأديان.
– لماذا لا تقول إن الذي لقنه الشهادة كان يظنه مسلماً.
– كان صديقه، يقيمان معاً، ترافقا طوال المظاهرات
– لكنه لم يهتم بمعرفة دينه”
على هذا النحو يمضي حوار طويل شائك مع أم مكلومة، ليطرح مسألة العلاقة بين الأديان في مواجهة حقيقة واحدة ماثلة: الشهادة في سبيل وطن واحد. وامتزاج جسدي شهيدين في قبر واحد بات يصعب الفصل بينهما. قبر مسلم يستضيف مسيحياً أو من كان حتى ما قبل موته مسيحياً.. ولا خيار أمام هذه المعضلة إلا أن يبقيا معاً: إما في قبر من قبور المسلمين.. أو ينقلا معاً إلى قبور المسيحيين.
يمتد هذا السجال إلى الكنيسة. هنا يمتزج الدين بالسياسة بالمشاعر، لينتج خليطاً من الأحكام التي يبقى أجمل ما فيها أنها لا تفقد جوهرها الإنساني أمام الموت. تسأل (أم جورج) الخوري: هل جورج شهيد؟ فيجيبها:
” إنه شهيد يا ابنتي. جورج لم يمت من أجل منفعة، مات من أجل الوطن، سواء كان على حق أو باطل. قالها ليقطع أي اعتراض، تابع قائلاً: “نعم سيعتبر من شهداء الكنيسة”. كان قد تجاوز صلاحياته، الشهادة كالقداسة أمرها معقد، لكنه قصد تكريمه من أجل أمه. لن يبخل ببضع كلمات تعينها على حزنها. “أنتِ أم والرب يسامح”. على عكس ما توقع انفجرت آلامها مدرارة من مآقيها. يا إلهي كم عانت! فطفرت الدموع من عينيه. ما أدراه بإرادة الله، مهما يكن أحسن صنعاً. ليس من العسير تبين إرادة الله؛ الرب لن يُمانِع. لم لا؟ قتله جنود النظام لأنه انضم إلى الثورة، كانت قضية السوريين جميعاً لا السنة وحدهم. لم يتصف جورج مثل آخرين، اعتبر نفسه جزءاً منها، سواء قدم روحه فداء لسورية أو الحرية أو الشعب أو العدالة.. ” ص (350)
ليس مهماً كيف ينهي فواز حداد هذه المعضلة.. ومن سيتنازل لمن عن شهيده في هذا القبر أو ذاك.. ليس مهماً إن كان جورج سيبقى في مقابر المسلمين السنة، أو ينتقل رفيقه أحمد العمري معه إلى مقابر المسيحيين، وإن كان الكاتب يقدم لنا حلاً درامياً رائعاً تقوده مشاعر الأمهات المكلومة في لحظة قرار صعب ومصيري لكلتيهما. إنها لعبة افتراضية متخيلة هدفها كشف الإشكالات والأسئلة التي تفجرها، والمصائر التي تصنعها أمام هذا الامتحان الصعب الذي يتنازع فيه كل طرف صورة عن يوم الحساب الإلهي، وهما على أرض اختلت فيها موازين العدل، وقيم الإنسان، ومفاهيم الحياة الكبرى والصغرى معاً. ولعل هذا سيقودنا إلى المحور الأهم في الرواية وهي تشريح علاقة النظام بالمكون المسيحي في ضوء الثورة، التي وإن بدت لوهلة هي شأن الأكثرية السنية إلى حد ما، فإن تأثيراتها لا تلبث أن تطال جوهر وجود المكون المسيحي الأصيل في العمق.
تفتيت الهوية.. مشكلة اجتماعية أم سياسية؟
في هذا السياق يبرز الانتماء الطائفي ليفرض نفسه على الجميع. لأنه البديل الطبيعي لتفكك مفهوم الهوية الوطنية أمام نظام متوحش لم يوفر أي فرصة لتفتيت هذه الهوية تاريخياً، لأنه يدرك أن بقاءه – في جانب من جوانبه – مرهون بذلك. بمعنى ليس المسيحيون طائفيين وليس السنة كذلك.. بل فرض على الجميع أن يرتدوا إلى انتماءاتهم الضيقة كي يحموا وجودهم الذي يبدو مهدداً من المكونات الأخرى، بينما هو مهدد من النظام الذي يستهدف الجميع ويود الانتصار على الجميع:
” الحرب مزقت المجتمع والناس. المسيحيون يريدون إنقاذ المسيحيين، والسنة مثلهم، والدروز أيضاً، ولا تنسى العلويين… الإسلاميون يتعاطفون مع جماعتهم فقط، والعلمانيون لا يعرفون ما يريدونه، وقفوا مع النظام وإن مالوا سراً إلى المعارضة، أو بالعكس” ص(41).
هكذا يبدو السؤال مثلاً حول هوية الأستاذة الجامعية التي تركت فرنسا لتبحث عن جورج.. سؤالاً ملحاً ليس في منظار الوطنية السورية المنهكة، بل حتى في منظار الأوروبيين فيما لو تدخلوا في القضية، أو ضباط النظام إن أرادوا الاستجابة للوساطات.. فهل (رحاب) فرنسية من أصل سوري جاءت تبحث عن طالب عندها وعن ابن بلدها الأصلي، أم هي سورية مسيحية جاءت تبحث عن ابن دينها وطائفتها؟! سنكتشف في النهاية أن (رحاب) مسلمة.. ما يعني أن الرابطة الأقوى هي الرابطة الوطنية. وسنكتشف أيضاً أن هناك علاقة حب هي بديل عن العلاقة الطائفية المتخيلة.. سنكتشف أيضاً أن الحب ليس علاقة جسدية وحسب، بل هو علاقة إعجاب بحماس شاب تحمس لثورة بلده وكان يتابعها أخبارها بحماس وإيمان.
أما عمق العلاقة بين مسلمي ومسيحيي سورية، فتجسدها السيرة الشخصية لأم جورج، التي أحبت شاباً مسلماً ثم تزوجت برجل مسيحي تقول عنه إنها لم تحبه مثلما أحبها. لكن الرواية تمر على حالات معاكسة أيضاً لمسلمين أحبوا مسيحيات لتقول لنا إن أقدار القلوب كثيراً ما تتجاوز حدود الطائفة والدين. الأهم من هذا كله أن الكاتب يصور البيئة المسيحية في مواجهة مثل هذه العلاقات الشائكة بمحبة وتفهم. إنها تشبه بيئة المسلمين.. فبين المسيحيين أيضاً ثمة محافظون وثمة من يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم وأديانهم… إنهم سوريون تجمعنا بيئة اجتماعية واحدة وإن اختلفت العقائد والمذاهب والأديان. أم جورج مثلاً:
” كانت من الجيل الذي تباهى بأن الرب واحد، والأديان تجمع ولا تفرق، كلها مسالك إلى الله. أما العبادات والطقوس الدينية فتفاصيل، قد تراعى أو لا تراعى، فكما الإيمان والعقيدة حرية شخصية. ودائماً لم تتزحزح عن إصرارها أن المسيحي مسيحي، والمسلم مسلم. [تقول]: عندما نكبر نصبح مسيحيين محافظين نأوي إلى أدياننا، وليتنا لا نغالي بها ” ص (123).
هذا في البعد الاجتماعي.. أما في البعد السياسي، فالمشكلة أكبر وأعقد من ذلك بكثير. لأنها مبنية على علاقة قهرية من نظام يجرى وصفه على مدار صفحات الرواية بأنه “لا يصفح ولا يرحم”. الإنجاز الأهم للرواية برأي، أنها تعمل على تفكيك البعد الاجتماعي المسكون في جوهره بالتسامح والتعايش وإن شابته الكثير من القيم المحافظة، من أجل أن يكشف أن البعد السياسي / الأمني، للعلاقة بين الطوائف هو الذي يعمل على تفخيخ هذه العلاقة وزرع حقول الألغام بينها، رغم أنه ظاهرياً وإعلامياً يزعم أن سبب هذه الألغام هو اجتماعي وديني بالأساس. يتمكن فواز حداد ببراعة وحتى المشهد الأخير من الرواية من تفنيد هذا الزعم. يعريه بالتتابع، يستخدم كل أدوات وتقنيات الرواية من أجل تعريته وتفنيده.. لتغدو الصورة في النهاية مختلفة، موشاة بالحب الحقيقي، والأمل الحقيقي.. الأمل الذي يولد من رحم أشد عبارات التصاريح المتبادل جرأة وشجاعة، لا شعارات التكاذب الزائف.
شخصيات روائية بنكهة تشيخوفية
يبني فواز حداد شخصياته الروائية بمهارة وحب. فهذه الشخصيات المسكونة بمخاوفها وانتماءاتها تنجلي في لحظات التأزم عن جوهر إنساني باذخ. في هذه النقطة يستوحي مهارات الروسي العظيم أنطون تشيخوف الذي طالما أسبغ حنانه على معظم شخصيات قصصه ومسرحياته ودافع عنها بإيمان. كل شخصيات (يوم الحساب) مرسومة بحب. ليس الحب بالمعنى التصالحي أو التجميلي، وإنما بمراهنته على الجوهر الإنساني الذي يجعل من كل الأخطاء والانحرافات إن وجدت، هي تعبير عن منظومة القهر التي تدفع البشر للتلوث بها.
إن شخصية الخوري هي من أجمل الشخصيات المسيحية الدينية التي قدمت في الأدب السوري.. شخصية بالغة الثراء، تجمع كل التناقضات الإنسانية وكل النبل الإنسان أيضاً. بمقدار ما تكتنز من الحنكة والحكمة والدهاء، بمقدار ما تنطوي على خوف وحذر. شخصية براغماتية لكنها لا تسكت على الحق وإن استخدمته في سبيل المناورة. كل ما يقودها هو حسها الإنساني.. وإحساسها العميق بالمسؤولية تجاه رعايا الكنيسة من جهة، وتجاه حماية هذه الكنيسة من امتطاء النظام لها، وإكراهها على يتعارض مع روحها ووجودها وسط أغلبية مسلمة.
الأجمل والأهم هو إيمانها بشرقيتها. إذ يدرك هذا الخوري الداهية أن أوروبا باعت المسيحية، وأنها تريد مهد المسيح بلا مسيحيين:
“معركة أبونا مع الخارج كانت مع الغرب، أقسى وأدهى. المسيحية تحللت هناك، وأصبحت مادة للهزء، مستهدفة من الإلحاد الروسي والإباحية الغربية. وإذا كانوا قد استقبلوا المسيحيين في بلدانهم فبذريعة إنقاذهم من المسلمين وليس عن طيب خاطر. لم يمدوا العون إليهم إلا لأنهم يريدون إخلاء مهد المسيحية من المسيحيين، وإبطال قداسة مزاراتها، شرق بلا مسيح أي أرض للنفط، وساحة عمليات للغزاة من الطامعين الكفرة. حض أبونا الرعية على عدم الهجرة مهما كانت الأسباب. ما الذي سيفعله المسيحيون في بلدان الرذيلة؟ سيغرقون بين علماني وملحد وكافر وقواد. بذلك ستتختم المسيحية وجودها في العالم. وحتى إذا شكلت أوروبا حماية للمسيحيين.. فللقضاء على المسيحية ” ص (87).
تتبلور شخصيات الرواية من خلال دراما المواجهات الحادة التي يقودها إليها الحدث والسرد الروائي. المواجهة بين (أم جورج) والخوري، حين تقرر أن تجبره على أن يتدخل لدى النظام من أجل كشف مصير ابنها المفقود.. تسهم في بلورة ملامح الشخصيتين معاً. حوار شكسبيري أخاذ، ممتلئ بحساسية درامية تكشف عوالم الشخصيتين. صراع مذهل بين أم مكلومة قلقة على مصير ابنها.. وبين خوري غاضب من الابن الذي ورط نفسه ويريد توريط الكنسية معه. تفهم عميق لمعنى أن تكون من تطالب بكشف مصير هذا الشاب هي أمه.. وشعور بعظم المشقة والعبء الذي ينتظره مع نظام قروسطي قاس لا يرحم.. ثم غضبه من تهديدها لها بأن تستعيد الأيقونة الذهبية التي أبدعها والد جورج المتوفى.. ثم صحوته من فورة الغضب وهو يتخيل كيف سيغدو مضغة في أفواه الجميع إن سحبت أم جورج الأيقونة من الكنيسة.
” كانت تستدرجه بطقوس الأسرار. لم تفته حيلتها؛ تتجاهل عن عمد أن الصبي الذي رتل الإنجيل، التحق بالمعارضة الملعونة، وصار شاباً يتظاهر ضد الدولة. ما الذي قام به؟ أسقط النظام ورماه بالأحجار وربما بالرصاص.
– يا ابنتي جورج آمن بالثورة أكثر من الله
– أبونا ارحمني.
كانت تستعطفه. لا، لن يشفق عليها:
– ليته ارتكب الخطايا السبع كنت غفرتها له. أما الثورة فالدولة ليست كنيسة لتغفر. النظام لا يعفو ولا يرحم ”
في الإطار ذاته تسهم شخصية (طوني الحصبوني) تاجر المجوهرات الأربعيني، الذي سيشكل مفتاح العلاقة بين الكنيسة ودوائر النظام العليا التي سيقودها الخوري، بحكم معارفه ورشاويه وتوسطه من أجل دفع الملفات العالقة وفتح الأبواب المغلقة.. تسهم في بلورة شخصية (أبونا) الدرامية، الذي يبدو بطل الرواية بلا منازع، رغم أن كل الشخصيات الأخرى توحي بأن البطولة معقودة لها، وخصوصا إزاء الناشط (حسان) الذي يقود السرد الذاتي في الرواية.. فكل حوارات حصبوني مع الخوري بمقدار ما تبدو ذريعة لكشف طبيعة النظام وعلاقته بالمسيحيين، بمقدار ما تزيد من الرصيد الدرامي الهائل لهذا الخوري الذي يصارع من أجل أن يحمي الكنيسة ويحمي سمعته ومكانته الدينية سواء في نظر رعاياه أو في نظر نظام فظ، في لحظة من اللحظات سيسقط عنه كل هالة القداسة بلا أي حرج!
كيف يَكْون السوري نفسه؟!
في كل محاور الصراع ومستوياته، الفكرة الأساسية التي تعالجها رواية (يوم الحساب) هو الثمن الباهظ الذي يتوجب على السوري أن يدفعه، كي يكون هو ذاته. لقد تمكن النظام الاستبدادي أن يجعل من الوطن الممتلئ حياة وتنوعاً وعراقة وإرثاً.. وهماً، وأن يذيب الحدود بين الدولة والنظام والرئيس، حتى ليعجز كبار المسؤولين عن شرح الفارق بينهم، فلا يدرك أحد من يمثل من؟ ومن يستعيض أو ينوب عن من؟
في أحد الحوارات الهامة بين الوسيط (طوني حصبوني) والخوري يقول حصبوني:
” – أبونا، لا أخفي عنك، أريد أن أقول لك شيئاً. أرجوك اسمعه على أنه اعتراف، لا تزعل مني، أرى أنه ينقصك قدر لا بأس به من الروحانية، أنت تحرّم وتحلل كيفما شئت، كمن دون أن تفصل بين الحرام والحلال.
– يا بني، نحن في بلد لا يستطيع الإنسان أن يكون الشخص نفسه، فالخوري مثلي لا يستطيع أن يكون خورياً فقط، يجب أن أكون اثنين على أقل تقدير.. انظر إلى نفسك، من تكون؟
وتلجلج الكلام في حلق حصبوني:
– أنا يا أبونا.. أنا يا أبونا… أنا كثيرون، لا أعرف أيهم أكون ” ص (250).
منذ السطر الأول: ” أنا ميت في حماية شهيد ” لا يستطيع (حسان) أن يكون هو ذاته.. حتى إنه لا يبوح للقراء باسم الشهيد الذي يتنقل ببطاقته الشخصية وحمايته: ” سأتحفظ على اسمه أيضاً، أما في الرواية فاسمي حسان”
لكن الرواية لا تكتفي برصد هذه الحالة التي تلخص جوهر المأساة السورية اليوم.. بل هي تسعى لبلورة التحولات التي تتبلور ببطء وبصعوبة بالغة وهي تقاوم حياة كابوسية ووطن مهدد بالتلاشي ليس من الجغرافيا والعمران، بل من وجدان أبنائه وهذا هو الأخطر.. فيتحول الميت في حماية الشهيد إلى كائن آخر حين يقرر البقاء:
” قلت في سري: لن أرحل. لست ميتاً، أنا إنسان حي، يباركني شاب استشهد من أجلي ” ص (336).
رواية (يوم الحساب) بحث عميق عن الذات في زمن قد يبدو فيه أن الثورة التي بلغت نقطة اللاعودة… قد بلغت نقطة اللاجدوى أيضا. لكن من قلب هذا الشعور العبثي المؤلم بخسارة كل شيء ولا جدوى أي شيء.. ينبثق إيمان قوي ودافق ومبهر بوطن نكتشف أن لا خيار لنا إلا أن نؤمن به. سنخسره جميعاً إن لم نؤمن به. إنها في وجه آخر بحث فلسفي عميق في معنى العدالة الأرضية وضرورة السعي إليها مهما أخفقنا. أما في مقاربتها للمسألة الطائفية والعلاقة بين الأديان.. فبخلاف الصورة السوداوية التي ترسمها (السوريون الأعداء) تضفي المسيحية الكثير من الدفء والحنان على تباينات مهما بدت جذرية إلا أنها تقود الجميع نحو الألفة والتعايش، بدل أن تقودهم إلى الموت تحت التعذيب في أقبية المخابرات وتحت سياط الجلادين دفاعاً عن بقاء سلطة أبدية.
-
المصدر :
- أورينت نت