في العام 1560، حذّر السير توماس جريشام الملكة إليزابيث مما يمارس على العملة الإنجليزية من غشّ حكومي تقوم به الدولة، فهي لا تحتوي على النسبة المقررة الصحيحة من الذهب. كانت العملة الصحيحة تُدّخر أو ترسل إلى الخارج. أما العملة الرديئة فتستعمل خصوصاً في تسديد الضرائب. وصف غريشام الظاهرة بأن “العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة”، وأصبحت العبارة تعرف بـ “قانون غريشام”.

لا ينطبق هذا القانون على العملة فقط، بقدر انطباقه أيضاً على الأدب والفن. ففي العقود الماضية، انحسرت الأعمال الجيدة لصالح الأعمال الخفيفة. شجعت ذلك الجوائز. أغلب الروايات التي حصدت الجائزة الأولى لا ترقى إلى المستوى المطلوب، ليس لعدم توافر أعمال جيدة، وإنما لافتقاد البوصلة في الاختيار. لجان التحكيم توخّت اعتبارات خارج الرواية، كمراعاة التوزيع الجغرافي. حتى أن أحدهم دافع عن هذا المنحى، فاعتبر استبعاد الروايات المهمة جرأة كبيرة. ما ساعد على انتشار الرواية الشعبية، وهي رواية خفيفة تحكي عن هموم ذاتية، وصفت بالرواية السيرية، تحتوي على جانب من السيرة الشخصية للكاتب مع قدر من البهارات والمبالغات والطرائف، فحصد الأدب مئات الروايات منها.

” استطاعت هذه الكتابات التعبير عن ذرى مأساوية قلما بلغها الأدب العربي من قبل”

هذا في وقت تحتاج فيه الرواية العربية التي شهدت إقبالاً من القرّاء إلى نماذج رفيعة، ليس كي تحتذى، بل للدلالة على سوية لا بد منها للعمل الروائي. وهكذا أثبت “قانون غريشام” فاعليته.

في نظرة إلى الأدب والفن خلال أعوام ما دُعي بالربيع العربي، استأثرت الثورات بالسينما والمسرح والأدب من رواية وقصة وشعر، واستطاعت أن تشكّل رصيداً معتبراً، مع أن الفنون بأشكالها المختلفة لا تستجيب للمتغيرات بسرعة ولا بسهولة، إلا بعد طول اختمار.

السنوات الأربع أفصحت عن الكثير مما لا يمكن توقعه على الرغم من عفويتها وتلقائيتها، تبدت بأعمال روائية وشهادات واقعية وأفلام سينمائية ومسرحيات وأعمال تشكيلية، ترصد غليان الشارع العربي، وما استجرته الثورات من دمار، وتطلع إلى الحرية.

لن نناقش قيمة هذه الأعمال من الناحية الإبداعية، فهي لم تكتب للأدب ولا للفن، بل كتبت للناس انتصاراً للثورات، في وقت كان التعبير عنها يشدّ من بأسها وعزيمتها، ومقاربة حالات يتنازعها الموت والجوع، والتصميم على العيش والمقاومة. ثورات استنهضت قوى المجتمع وأبدت من التفوق الأخلاقي والتعاضد الإنساني ما يفوق الوصف.

استطاعت هذه الكتابات التعبير عن ذرى مأساوية قلما بلغها الأدب العربي من قبل، تمتاز بصدقها وإخلاصها وشفافيتها. الجانب الإيجابي أنها عاكست “قانون غريشام”، وطردت الأعمال الرديئة من سوق الأدب والفن، حتى وهي في حالتها غير الناضجة.

لأول مرة انخرط الأدب في الدم الحقيقي، ما كشف عن تلاصق حميمي بالثورة وإرادة التغيير، وكشف عن الاستبداد والفساد بأبشع صورهما، وأيضاً عن صدع خطير في الروح الجامعة، انقادت للعنف في أقسى مظاهره تحت أستار المذاهب والأديان.