منذ أقدم العصور، يسري نداء الحقيقة، لم يفتر ولم يتوقّف، أو يُصبه الوهن. تعاني الحقيقة من الإنكار. بحَث عنها بعناد قلّة من البشر، وأصبحوا على مدار الزمن لا يعدّون ولا يحصون، ومنهم من دفع حياته ثمناً لها. لم تفل عزائمهم أمام المشنقة والمحرقة وفصيل الإعدام. خصوم الحقيقة لا يستهان بهم، طغاة وعسكر، أكليروس وفقهاء، رقباء ومحتالون، لكنها تنتصر، والإنسانية تتقدّم. وإذا كان لأعدائها أن يحرزوا تقدّماً، ففي الدجل والتزييف.

قد يطول انتصار الحقيقة عشرات السنين، رغم المطاردة والقمع. في هذا الوقت المستقطع من الزمن يسود الاستبداد، ويكسب عملاء مأجورون ومثقفون خونة ومتواطئون صامتون، غير أنها لا تعدم انصاراً لا يتخلّون عنها من جيل إلى جيل.

في البحث عنها، الضحية الأولى هي الحقيقة نفسها، طالما هناك من يسارع إلى اختطافها وتزويرها، ووضع اليد عليها واستخدامها لمآربه. وسواء كانت الحقيقة دينية أو سياسية أو اجتماعية، فقد تنعكس على البشر بالقهر والعسف والتطرّف والجنون… المثال الشيوعي لم يُنس بعد، ففي حين كانت الحقيقة هي الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر، كان مردودها على الناس طوال سبعين عاماً، تكميم الأفواه، والمعتقلات والمنافي والمحاكمات والتخوين.

” فقهاء الظلام، استهدفوا الأديان، وحوّلوها إلى مسلّمات تصلّبت على مفاهيم ثابتة”

هذا حال كل نظام جائر، يُهدر حياة البشر تحت وهم تحقيق السعادة، بينما حقيقته حكم الفرد وعبادة الدكتاتور. إن أشدّ ما يكون الخطر، عندما تزعم السلطة امتلاكها للحقيقة، فيجري التلاعب بها، فتسوغ الطغيان، وتستدعي الإرهاب.

تخوض الحقيقة في غمار المجهول سواء في الكون الفسيح، أو كوكبنا الصغير، وفي دواخلنا المعتمة. تنزع الخرافة، وتبعث الأمل ولا تُنجي من اليأس، إذ الحقيقة صادمة. تُحسّن شروط الحياة، قد نظفر من جرائها بالطمأنينة أو ترسلنا إلى بحران الشكوك، إذ لا تعبأ باليقين… تخيفنا وتبلبل أفكارنا، لكنها لا تضلّلنا.

فقهاء الظلام، استهدفوا الأديان، وحوّلوها إلى مسلّمات تصلّبت على مفاهيم ثابتة، بينما الدين يحرّر الإنسان من ربقة الظلم، وتوارث الجهل. ولم يكن تمزيق الأديان إلى شيع وفرق سوى رهن بالاستيلاء على السلطة، استجرّ حروباً مذهبية، شكّلت تاريخ أوروبا الدموي، كانت محاكم التفتيش إحدى تجلياتها القمعية. ويشهدها اليوم الإسلام، بتعمّد تصدير نسخة مشوّهة له على أنه دين القتل والتطرّف والعنف والتشدّد.

يُعبث بالحقيقة وتنقلب إلى ضدّها، لكنها ليست أكذوبة ولا ما يتراءى لنا، الحقيقة موجودة، قريبة إلى حدّ أنها تصفعنا، ومن الغفلة إنكارها، إنها سعي دائم نحو الفهم والتبصّر والإدراك السليم لمعجزة وجودنا كبشر سواسية، ومهما ابتعدنا عنها تقترب منا، لا تكفّ عن الوجود، ولا التوالد، بل وتأخذنا إلى غيرها، مجرّد أن نخطو نحوها تفتح لنا آفاقاً من المعرفة والحرية. وبمقدار ما تنعكس على البشر بالخير، تكون عظيمة، لكنها ليست مطلقة.

فالدكتاتوريات والإرهاب لم ينشأا إلاّ من حقائق تزعم أنها مطلقة.