“هؤلاء المتغطرسون الادعياء هم نفايات ضرورية لسعي المجتمع الحثيث الى خلق نخبة، هؤلاء العباقرة المهزوزون، هؤلاء العقول المسكينة المسمومة، يستحقون شفقة تماثل شفقتنا على فئران الاختبار التي يلقحها بالسعار أساتذة مختبر باستور”.
هذه الشتائم كانت من نصيب المثقفين الفرنسيين، قبل أن يعرفوا ويتميزوا بهذه الصفة، كان من بينهم كبار الادباء مثل اميل زولا واندريه جيد ومارسيل بروست. أما الذين انهالوا عليهم بالنقد واللوم والتجريح، فمن المثقفين أيضاً، وإن لم ينتموا إليهم، أنفوا من المصطلح، فقد كان جديداً ومرفوضاً، كانوا حسبما وصفوا أنفسهم مفكرين وطنيين، فإذا كان خصومهم انتسبوا إلى الثقافة، فهم انتسبوا إلى الوطن، أنكروا على كتاب ومفكرين مثلهم النزول إلى الساحة العامة، وتبني قضايا الجمهور.
ظهر تعبير “المثقفون”، وأصبح متداولاً في قضية “دريفوس”، القضية المشهورة التي شغلت فرنسا في العقد الأول من القرن العشرين. دارت حول اتهام ضابط فرنسي يهودي بالخيانة العظمى. انقسم المجتمع الفرنسي على أثرها إلى قسمين، الأولى تبنت الاتهام وتمسكت به تحت تأثير معاداة السامية، والثانية طالبت بإعادة محاكمة الضابط لبراءته من التهمة المنسوبة إليه.
الجماعة التي تولت الدفاع عن “دريفوس” كانت بشيراً بظهورهم، أعلنت عن مشاركتها في الشأن العام، بينما الأخرى التي ضمت جماعة صالونات الأدب، كالكاتب موريس باريس وأعضاء الاكاديمية الفرنسية واغلب كتاب الصحف والمجلات اليمينية. فهاجمتهم تحت زعم ترك الشأن العام للاختصاصيين. فإذا كانت القضية سياسية فللسياسيين، وإذا كانت اقتصادية فللاقتصاديين، وإذا كانت القضية جرمية، فللشرطة والقضاء. عبر عنها بوضوح وزير المالية في ذلك الوقت ريمون بوانكريه: “إنها قضية قضائية أساساً، فيجب علينا ان نتركها بين جدران المحكمة، والا نسحبها كما يفعل البعض اليوم الى الساحة العمومية”.
لم تكن الانتقادات ولا الهجوم الشرس، أو السخرية التي نالت من المثقفين من دون حجة قوية، مع أنهم كانوا من الكتاب والعلماء والأساتذة والفلاسفة المرموقين، لكن هل هذا يجعلهم في مرتبة فوق الناس؟ فمن ناحية الاختصاص، وعلى الرغم من مؤهلاتهم، فهم لا يتفوقون على العامل في المصنع باختصاصه، ولا على الفلاح المزارع في أرضه، أو على الحرفي في مشغله!! ثم ولو كان الشأن العام ساحة عامة، لا يجوز أن ينزل إليها كل من يشاء، حتى ولو كان المثقف يدعي الدفاع عن قيم متوافق عليها، إنه بتدخله في عمل القضاء، يمس نزاهته، ويشكك بأحكامه. كما أنه يمارس عملاً تخريبياً بالعبث في “تقسيم العمل” الذي يقوم عليه الاستقرار في الجمهورية.
شكل المثقفون مفاجأة القرن العشرين، وأدت الشعارات التي رفعوها إلى انتشار هذا الوصف في العالم، ما جعل الحكومات تأخذ حذرها منهم، فإذا كانت نجحت أحياناً في شراء السلطة الرابعة وإسكاتها، لكن مع المثقفين ما العمل وهم اشخاص لا على التعيين، ادباء، فلاسفة، علماء، مفكرون، صحافيون … لا يجمعهم جامع سوى انحيازهم للحق والعدالة؟ في ذلك الوقت لم تتخذ بحقهم الإجراءات الرادعة التي ستصبح مألوفة في ما بعد كالاغتيال والاعتقال والسجن والمحاكمات الصورية والمنافي. كانت البدايات بالتهديد والتشهير بهم، كما حصل في أمريكا زمن المكارثية، حيث استدعي إلى التحقيق تحت زعم مناهضة الشيوعية، والقيام بنشاطات غير وطنية، نخبة من المثقفين الأمريكيين وغير الأمريكيين كآرثر ميلر وبرتولت بريخت وشارلي شابلن وفريتز لانج. فطرد من طرد من عمله، وهجر من هجر من أمريكا. قبلها بلغ التنكيل بهم في محاكم ستالين أن الذين لم يعدموا، أرسلوا إلى سيبيريا. ودائماً سوف تكون للسلطات في العالم صولات وجولات مع المثقفين خاصة الذين نجحوا بالتأثير في الرأي العام، كما في الحرب الأمريكية على فيتنام. أما في المنطقة العربية، فلم يعترف بالمثقفين المناهضين للسلطات الديكتاتورية إلا على أنهم عملاء للشيوعية الهدامة، أو للغرب الامبريالي، ومؤخراً للإرهاب والطائفية. وسوف تلجأ السلطات العربية إلى الاختباء وراء ايقونة الوطن، فهذا التقليد ما زال سارياً.
أما التقليعة المتداولة منذ نحو عقدين عن “موت المثقف”، فهي الدلالة على أن المطلوب قتل المثقف لعدم الحاجة إليه، السلطة كفيلة به. وسوف تؤازرها جماهير المسيرات المسيّرة بالهتافات والضجيج، كذلك الضمير العالمي بالصمت.
-
المصدر :
- المدن