بعض الجرائم بِنت لحظتها، ناجمةٌ عن التهوّر والغضب الشديد، تشملها الظروف المخفَّفة، لافتقادها ركن العمد مع سبق الإصرار. أما الجرائم التي لا تفتقده، فأغلبها يحتاج إلى ذكاء، وفي حال القبض على المجرم، فالعقوبة على تقصير الذكاء أكثر من الجريمة، عادةً ينجو أصحاب الجريمة الكاملة.
هذا النوع من الجرائم ليس من اختراع السينما الهوليوودية، ولا نتاج أميركا الذكية، آلاف الجرائم سنوياً، لا تجد حلاً لها، كثيراً ما قُبض على مشتبه به، ظهرت براءته بعد سنوات طويلة، أو بعد الإعدام، أما الفاعل، فربما ما زال يُوالي جرائمه حتى الآن.
لا يخفى أن بعض الجرائم، وهي في ازدياد، تُرتكب لمجرّد البرهنة على قدرة المجرم على الإفلات من العدالة، أو بدافع البطر لإثبات غباء الشرطة، أو طلباً للشهرة، فالحادثة تحتلّ صفحات الجرائد، وتنشر الذعر والرعب بين الناس. وأحياناً يُراسل الفاعل الصحافة، ويتصل بالشرطة ويسخر منها ويتحدّاها. ما يُشغل الرأي العام الذي ينحاز إليه مكافأة على جسارته.
وثمّة جرائم نفسية غامضة يعجز علم النفس عن معرفة دوافعها، ومثلها الجرائم المتسلسلة التي لا تخلو من الغموض والذكاء معاً، فالمجرم يرتكب جريمة تلو الجريمة بمنتهى القسوة، ودائماً على النمط نفسه فيجتذب الاهتمام، ويُضلّل الشرطة. بحيث تبدو مطاردته مباراة في الذكاء بين المجرم والشرطة.
” بعض الجرائم تُرتكب لمجرّد البرهنة على قدرة المجرم”
استفادت السينما الأميركية من هذه المباراة، ما حوّل أفلامها إلى مطاردات ماراثونية لا تنتهي، يفوز فيها غالباً العميل الفيدرالي، وأحياناً المجرم الوسيم خفيف الظلّ معشوق الشقراوات، ولو أنه اغتصب ومثّل بالجثث، نهاية ينساق إليها كاتب السيناريو ومخرج الفيلم إرضاءً للجمهور.
المحيّر هو أن الذكاء الإجرامي يرافقه خللٌ عقلي، فالجنون لا يُعطلّه، ولا يُحبطه، بقدر ما يدفعه إلى المزيد من الوحشية، كأن الخلل ميزة تُنظّم عمل آلية الذكاء في دماغه، وترفعه إلى مستوى العبقرية في التنفيذ، فيبتكر أساليب عنيفة في القتل الأكثر همجية.
فلنتخيّل أن البشرية لا تتمتّع بهذه العبقرية المشبوهة، وأن العقل يقتصر على العقل فقط بلا شطحات عالية الذكاء وإبداع منحرف. ألن تكون الإنسانية أسعد حظاً، ولو أن تقدّمها يتباطأ، بدلاً من عبقرية تقتل أكثر من أن تُشفي. ترى هل الذكاء نقمة؟ التطوّر في آلات القتل والتدمير والإفناء، كان وراءه علماء أذكياء جداً، واذا استمرّ ارتفاع منسوب العبقرية فلن يطول الوقت للقضاء على الحياة، وتحويل الأرض إلى كوكب مظلم.
إذا كنّا نذمّ الذكاء، فلسمعته المبالغ في نظافتها، فهو يُمتدح رغم أخطائه الفاحشة، وإذا شئنا الأمانة، ينبغي تمييز الذكاء العادي عن الذكاء الشيطاني، فالعادي مدينة له البشرية في تقدّم العلم البريء، معقد الرجاء وواهب الأمل. أما الشيطاني فأنشطته الشريرة في توسّع، لا يعمل في الخفاء فقط، بل وفي العلن، الدكتاتوريات مدينة له، جرائمها وباء يصيب شعوباً بكاملها.
-
المصدر :
- العربي الجديد