يحيل الكثير من الأدباء تغيّر مجرى حياتهم من بشر طبيعيين، إلى بشر تركبهم هموم الكتابة، إلى المصادفة. أما أمراض المهنة، فعدا الجلوس الطويل وراء الطاولة، والهوس بالعزلة، والانكباب على التدخين للمدخنين منهم؛ ثمة القلق المستمر، والخلط أحياناً بين الواقع وشيء يلتبس به، يشبه الواقع، يمكن دعوته بالخيال، وهو ما أودى بهم فعلاً الى التورط في أن يصبحوا روائيين أو شعراء، إذ المصادفات، وما أكثرها، لم تحصد ما يوازيها من ضحايا أدبية.

المصادفة التي غالباً ما كانت السبب في التعرّف إلى الكتب، والقراءة التي قادتهم إلى الكتابة، واكتشفوا تحت تأثيرهما قدرة الخيال الجامح على السفر بواسطة الكلمات إلى عوالم أخرى لم يعيشوها، ربما عاشها غيرهم، أو لم يعشها أحد. بعضهم اعتقد أن الروايات كانت موجودة داخله، لمجرّد أنها وجدت منفذاً خرجت منه، بعدما هيأ لها السبل، لتتحرر من ذاته.

يبدو هذا الزعم أقرب إلى الهذر، أو من قبيل التبجّح، والشطط في تحويل الكتابة الى لعبة أسرار. لكن من قال إن من الأمور العادية اختلاق عالم تكاد أن تلمسه وتضيع، إن لم تغرق فيه، سواء كان مُناراً أو معتماً؛ عالم لا تنقصه الفصول ولا الرياح، المطر والسنونو، والبشر، ولا يحتاج إلى تلاعب بالأشياء والأشخاص؟

” لو كان الطريق واحداً، والحظوظ متساوية، لكتب الروائيون الرواية نفسه”

هناك من كان أقل غروراً، اعترف بأن الروايات مبذولة في الحياة، مهمة الكاتب اختيار ما يروقه منها، وأن عمله لا يزيد عن الرغبة في تحديد مقدار تشويهها أو تقويمها، تحت زعم إدخال تعديلات عليها، ربما تنسفها من أساسها، وما الحياة إلا محرّض فقط.

وثمة آخرون مهووسون بالبناء، يشيّدون رواياتهم بدقة وحرص، على مهل، كأنهم يقرؤونها في كتاب من طلاسم، لا يفعلون شيئاً سوى أنهم يفككون أحجياته، وأحياناً لا تكون الطلاسم سوى لغة أخرى، غير منطوقة، ولا قاموس لها، تترجمها الكتابة من سلسلة مشاهد إلى سلاسل كلمات.

ليس من الضرورة أن تكون الترجمة أمينة؛ إذ يتدخل فيها المزاج والذائقة الشخصية، وإضفاء بعض التحسينات، ما يمنحها لمسة من الغرابة المألوفة.

في المقابل، ثمة من يدّعون أنهم يكتبون من الأحلام، يدفعون الكثير من الأرق ثمناً لذلك، وإن كانت كوابيسهم أجدى. قد تكون تسلية مرهقة، نهايتها السعيدة، وضع حد لخناق، يكلفهم قشعريرة مرعبة وسيلاً من العرق. أما المحظوظون فيستدعون قصصهم من الذاكرة، وهي ذاكرة عريضة، عميقة الغور، تشطح كثيراً، وتسطو على ذاكرات الآخرين.

ولا يخلو عالم الأدب ممن يعتقد أنه يهرب من الحياة الواقعية إلى واقع آخر أكثر تركيزاً، يمكنه إدارته والسيطرة عليه، وقد يجد لإشكالات تعترضه حلولاً تتوفر بشكل أسهل على الورق.

في الحقيقة، تتنوع السبل إلى الكتابة، وفي هذا نعمة. لو كان الطريق واحداً، والحظوظ متساوية، والمصادفات على وتيرة واحدة، لكتب الروائيون الرواية نفسها، والشعراء القصيدة ذاتها، ولبدت الأنواع غير متنوعة، أشبه بطريق محدد لمتعة لا تتكرر إلا مرة واحدة.