بعد سبع سنوات على صدورها، ما زالت رواية (السوريون الأعداء) للروائي السوري فواز حداد، تتربّع على قمة الأعمال الأدبية التي حاولت تشريح حقبة الأسد الأب ثم الابن من منظور نقدي تاريخي، يحلل بنية وأسس هذه الحقبة ولا يكتفي برصد مساراتها والوقوف على أبرز تحولاتها وحسب.. ما زالت تتحدى كل من كتبوا عن هذه الحقبة، ليس بمزاياها الفنية، ولا مقارباتها الموضوعية على صعيد تناول الأحداث ورسم الشخصيات وحسب، فهذه المفاضلات تبقى مرحلية، وقد تشمل أدب الكاتب نفسه، لكن التحدي الأبرز هو شجاعة الخطاب. وإذا كان “ليس كل ما يُعرَف يقال” فإن فواز حداد لا يميز بين ما يعرف وما يقال.. يقول كل ما يعرفه وكل ما يعرف الجميع أنه الحقيقة المعاشة والماثلة للعيان التي لا يمكن لسوري تجاهلها، لا يخشى اتهاماً بالطائفية أو التطرف أو الانحياز، لكنه يخشى أن يأتي من سيقول بعد نصف قرن أو قرن من الزمان: ما بال أدباء تلك المرحلة التي عاشوها وعاصروها، لم يتحلّوا بشرف الجرأة في القول والشهادة على الواقع الذي خبروه؟.
الضمير.. تلك هي المسألة
في الصفحات الأخيرة من روايته، يندهش رجل الأمن الذي عمل في القصر الجمهوري لعقود، من موقف المعارض العلوي (عارف) الذي أعلن بعد اندلاع الثورة ضد حكم بشار الأسد، أنه سيقف مع النظام، يسأله: “ألن يكون موقفك ضدك كمثقف” يرد عارف: “بالعكس.. الثقافة تزوّدك بالمبررات والذرائع لأي موقف تتخذه” إن ما يفعله فواز حداد على مدار حوالي خمسمئة صفحة هي حجم هذه الرواية الملحمية الطويلة، أنه سيرمي كل هذه المبررات والذرائع التي تمنحها له الثقافة، كي يكون صادقاً فيما يكتب، حادّاً وجارحاً ومتألماً ومكلوماً ويائساً وآملاً و”متشائلاً”.. لكنه أبداً لن ينساق لأن يكون مبرِّراً أو مداهِناً، ومنذ الإهداء الذي صدر به الرواية، يكتب: “هذا كتابي.. عن الضمير تلك هي المسألة” وحتى الصفحة الأخيرة من الرواية، يوّفي فواز حداد بمقتضيات الإهداء كله، فكأنّ الضمير هو الراوي وهو السارد، وهو الرائي الذي يصنع الرؤية التي ستشكل اختراقاً حقيقياً في الأدب السوري خلال نصف القرن الأخير، الرؤية التي تقول، إن الكتابة عن الواقع بوضوح ودون مواربات ومحاولات هروب، أكبر من كل برستيج الأدب التقدمي التبريري والذرائعي، أكبر من التنظير الأجوف، والتعالي عن معاينة واقع على درجة عالية من الصفاقة اللاوطنية، أكبر من أن يتّهمك كاتب يساري أو آخر طائفي حتى النخاع بدائه ثم ينسلّ، وهو يرى القشة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه!
الأدب التقدمي كزيّ موحَّد!
في أربعينات وخمسينات القرن العشرين، ساد الأدب السوري تيارات متنوعة ومتصارعة، وتنقّل الروائيون والشعراء والقصّاصون بين اليمين واليسار، بين الميلودراما الاجتماعية والواقعية النقدية حيناً، وبين الواقعية الاشتراكية أحياناً. كانت الأعمال الأدبية تقيّم بناء على موهبة كاتبها، وعلى فرادة رؤيته الفنية، وخصوصية معالجته لموضوعاته، وموقفه الفكري إزاء التيار الأدبي الذي ينتمي إليه ويؤمن به. وكان طبيعياً حتى في الخمسينات أن يخرج من اليسار الذي كان ممثَّلاً برابطة الكتاب المتطلعة إلى التمسّح الأيديولوجي بثقافة “الاتحاد السوفيتي الصديق”، أن يخرج من ينتقد نزار قباني ويصفه بأنه يمثل في شعره “أدب المرأة الفاجر”.. وكان طبيعياً أن يخرج من يردّ على هؤلاء، ويسخر من شعاراتهم، ويستمر في الدفاع عن القيم الجمالية الأدبية في مواجهة الأيديولوجيا.. وكانت المجلات الثقافية الكبرى مسرحاً لتلك السجالات وهذا التنوع، حتى جاء انقلاب البعث عام 1963، ليقضي على الصحافة الخاصة، وليفرض رؤيته العقيمة على كل ما في الحياة.. فيستعاض عن التصنيفات النقدية الأدبية، بمصطلحات ثورية شعاراتية فارغة من قبيل “أدب رجعي” و”أدب تقدّمي”. وكان من أوائل من سخروا من هذه التصنيفات الشاعر محمد الماغوط في مقال له عن الحياة الثقافية السورية نُشر في إحدى المجلات اللبنانية عام 1965. فيما بعد كشف مصطلح الأدب الرجعي شيئاً فشيئاً عن أبعاده الطائفية والمناطقية.. صار كل ما يكتبه أدباء الأقليات في مهاجمة ثقافة المكوِّن السنّي وعقائده وقيمه والسخرية منها “أدباً تقدمياً” وصار كاتباً شعبياً اعتُبر أبو الدراما الإذاعية كـ “حكمت محسن” كاتباً رجعياً، لم يفهم التغييرات التي حدثت في مجتمع ما بعد الثورة (ثورة الثامن من آذار) كما جاء في حيثيات التضييق عليه وتطفيشه من الإذاعة لاحقاً.
أدب إنكار الواقع!
سُحق اليمين في الحياة السياسية السورية كما في الأدب. لم يكن المستهدف اليمين الديني فقط، بل حتى اليمين المدني الوسطي الذي يؤمن بقيم العمل والانفتاح بعيداً عن الشعارات الكاذبة وأيديولوجيا اليسار المسعورة. صارت البرجوازية شتيمة، والدفاع عن قيم الأكثرية السنّية تخلّفاً، ومحاولة “تثوير” المجتمع بوسمه بالتخلف والرجعية لأنه لا يستسيغ شتم الذات الإلهية وازدراء الإسلام مهمة الأدب التقدمي الجديد، وعندما احتدم الصراع السياسي الطائفي أكثر بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة في انقلاب عسكري واندلعت المواجهات في نهاية سبعينات القرن العشرين، صار مطلوباً من الأدب أن يعالج هذا الصراع بمعزل عن أسبابه الحقيقية، وسواء تحت ضغط الرقابة الرسمية، أو أهواء “الثقافة التقدمية” وشلل اليسار الثقافي المناكف للبعث والمتقاسم للهمينة على الحياة الثقافية السورية معه، تشكّلت صورة لأدب يتحدث عن السجون وعن الاستبداد والقمع وعن الصراع مع السلطة، لكنه لا يعترف أن هناك مشكلة طائفية حقيقية، وأن هناك أقلية تستولي على الحكم وتستأثر بالامتيازات، أما مجزرة حماة فكان ذكرها في الأدب السوري – إن ذُكرت لاحقاً – يتماشى مع وصفها بالمدينة المتخلّفة الرجعية، التي استخدم حافظ الأسد القسوة المفرطة، لتطهيرها من المتطرفين ومسلحي الإخوان المسلمين الذين أخذوا المدينة رهينة. جرى الحديث عن الاغتيالات التي طالت شخصيات رسمية وحزبية في حماة، بوصفها سبباً لا نتيجة لممارسات سابقة وأجواء مشحونة ساهمت السلطة على الدوام في تأجيجها عن عمد. ومن تحلّى بقليل من النزاهة اعتبر أن ما جرى هو نوع من القمع الذي يمارسه حكم شمولي ونظام ديكتاتوري، لم يكن المستهدف منه أهالي حماة رغم رجعيتهم وتشددهم، لكن الجريمة وقعت بدافع “الضرورة” الوطنية، أو الطبيعة الاستبدادية.
القتل بوصفه متعة وتذكارات!
يتمرّد فواز حداد في روايته (السوريون الأعداء) على كل هذا السياق، حين تنطلق أحداث روايته من مجزرة حماة التي ارتكبها نظام حافظ الأسد في شباط 1982. لا يسوّغ ولا يبرر، لا يحاول أن يُفهمنا أن القتل واستهداف المدنيين الأبرياء وإخراجهم من منازلهم لتفجيرها أمام أعنيهم كان ضرورة. يعمل منذ البداية على الذهاب إلى أعمق نقطة في الفعل العمد: المتعة. الاستمتاع بالقتل الذي ينتج كل هذا التفنن في ابتكار أساليبه، الاستمتاع الذي يجعل من “القتل الرحيم” إن حدث خطأ أو هزيمة، تستدعي الندم وإعادة النظر بالطريقة، وتجنب تكرارها.
يتساءل النقيب سليمان بعدما اكتشف أسرة مختبئة مع أطفالها بين ركام حي الكيلانية المدمّر، وهو يجول بسيارته في المدينة التي امتلأت بالجثث، وقد اتخذ قرارا آنياً بقتلهم رغم أنهم لم يفعلوا أي شيء: “ترى كيف ستكون لحظة تلقّي الموت؟ الرعب بدأ يمنح ملامحهم طابعاً غريباً غرابة الموت نفسه، اللحظات التالية سيشوبها شيء غريزي، لن يزيد عن لمحة خاطفة. لا بد أن تكون خارقة، سينتبه لئلا تفوته، أحس من برودة أعصابه أن العملية كلها مهما تفاقمت حرارتها، ليست أكثر من مراعاة الدقة في التصويب، لا القدرة على ارتكاب مجزرة صغيرة لا حسيب ولا رقيب عليها، بات من الجبن عدم الإقدام عليها” ثم يضيف: “إنهم ميتون، جزء من عالم يمضي نحو الفناء سيحتفظ منه بتذكار”. ص (31)
سيستمر حصد التذكارات طويلاً.. ليس على شكل تعفيش ونهب للمدينة وإفراغ لسوق الذهب فيها، وانتزاع الحلي والخواتم من أيدي النساء وحسب، بل تذكارات آدمية أيضاً. في القرية العلوية التي ينتمي إليها النقيب سليمان – أحد أبطال الرواية – يقول ابن طائفته الشيخ حامد:
“قتلى حماة بالآلاف والسرقات بالملايين، المنهوبات من البيوت والمحلات كانت تصل القرى ليل نهار، وتباع في الأسواق.. المصاغ المسروق، خصوصاً الخواتم كانت عليها آثار دماء” ص (212) ينفي النقيب ذلك متذرعاً بأن الجيش لا يخلو من ذوي النفوس الضعيفة، لكن الشيخ يتابع: “وهناك من جلب معه تذكارات؛ أياد مقطوعة، وآذان مصلومة.. ألا تسوّغ هذه الأعمال اضطهاد الطائفة في المستقبل، وكل هذا كي تستأثر فئة بالحكم” ص (213)
شخصيات القاعدة والاستثناء!
لا يتحاشى فواز حداد ذكر الحقائق التي تعارف السوريون عليها صمتاً وضمناً، فالفاعلون الأساسيون في مجزرة حماة الرهيبة هم ضباط علويون، القرار والعصبية وخزان الأحقاد، وانعدام الوازع الإخلاقي والإنساني، كل هذا يحمل بصمات العلويين وتقبلهم لفكرة المجزرة كعقاب جماعي وانتقام تاريخي. لكنه رغم ذلك لا يتعامل معهم بوصفهم أنماطاً مسطَّحة، يسبغ عليها أحكاماً مسبقة، فداخل – هذا الإجماع أو الانقياد على الأقل – ثمة استنثاءات حقيقية ترفض هذا التوحش، وتفكر بما سيتركه من أثر على مستقبل الطائفة، منهم الشيخ حامد، ومنهم أيضاً صديق الطفولة (غالب) الذي راح يسرد على مسامع ابن ضيعته النقيب سليمان ما سمعه من الجنود العائدين:
“حدّق غالب إليه، وأخذ يسرد ما سمعه بنفسه من الجنود العائدين من حماة، كانوا يتباهون بما اقترفوه من جرائم، القتل استمر ما يقارب الشهر!! هل بوسعك تخيله، يحتاج إلى ضغائن هائلة، من أين جاؤوا بها؟!”
يبدو هذا السؤال هو جوهر الإشكال التراجيدي في هذه الرواية، فعلى مدار صفحاتها يجري البحث دائماً عن طبيعة البيئة التي أنتجت بشراً يحملون كل هذه الضغائن تجاه باقي السوريين.. طبعاً لا يستهين الكاتب بذرائع النقيب سليمان في إيجاد جواب عن هذا السؤال التراجيدي الاستنكاري، عبر التذكير بمجزرة المدفعية (1979) التي أعدم الإسلاميون فيها عشرات من طلاب الضباط. يرد غالب: “لقد عوقب من ارتكب هذه الفعلة” لكن الجواب يأتيه: “لقد فعلوها مرة أخرى داخل حماة، قتلوا البعثيين” لكن غالب يعقّب: “أهالي حماة غير مسؤولين عما حدث” ثم يسأل النقيب مرة أخرى وكأن السؤال يحمل الإجابة في ثناياه: “هل وجدت متنفَّساً لأحقادك؟” ص (219)
لا يقتصر الاستثناء الإنساني والوطني على جملة مواقف وحوارات، لكنه يشمل بناء شخصيات، تحضر في فضاء الرواية لا يحول انتماؤها الطائفي وعملها في المخابرات، دون أن تتعاطف مع من أسدى إليها معروفاً لا ينسى.
فقبل أن يَقتل النقيب سليمان العائلة المختبئة بين الأنقاض، يرسل الأب الطبيب (عدنان الراجي) إلى حقل الرمي، بخديعة أن هناك ضابطاً جريحاً يحتاج إلى إسعاف. وهناك تتضح الرسالة، فالإرسال إلى هنا يعني الاعتقال والإعدام. يتعرف المساعد العلوي ضرغام الذي تسلم الطبيب المعتقل إلى هويته، ويتذكر الموقف الإنساني الذي أسداه إليه، حين زاره في عيادته في ساحة العاصي قبل عام، عشية عيد الأضحى لمعالجة أحد أبنائه. كان أولاده الآخرون يريدون منه شراء ثياب العيد لهم. أحسّ الطبيب بذلك فرفض أن يأخذ أجرة المعاينة، وأعفاه من شراء الدواء بإعطائه عينات مجانية، أسدى له معروفاً وكان يودّ المساعد أن يردّه له حين يجني محصول الزيتون، لكن المجزرة كانت أسبق في جمعهما. يقرّر المساعد أن ينقذ الطبيب من الإعدام مع علمه بقدوم ضباط المحكمة الميدانية من دمشق، إلا أن النقيب سليمان، الذي أرّقه إفلات الرضيع من الموت واختفاء المرأة العجوز التي أنقذته، يتذكر أباه المعتقل، فيتصل بحقل الرمي ويطلب المساعد ضرغام كي يطمئن على وقوع الطبيب رهن الاعتقال، زاعماً أنه تم القبض عليه وهو يداوي الجرحى، كي لا تكون لدى المحكمة الميدانية أي فرصة لاستثنائه من أحكام الإعدام. يرى الطبيب (عدنان الراجي) مجزرة الإعدام الجماعي بأم عينيه، بعد أن تمكن المساعد ضرغام من إخراجه من بين المعتقلين قبل البدء بتنفيذها، زاعماً أنه الطبيب المكلف بفحص الجثث والتأكد من موت الجميع.
هكذا تنطفئ نيران الحقد والتوحش، يستعيد ضرغام شيئاً من إنسانيته، يتشارك مع الطبيب القلق على حياته، يقول له: “ادعُ الله أن يوفقني في مسعاي معك” لكن عندما يفشل في مسعاه ويُكتشف أمر الطبيب الذي كان يُفترض أن يُعدم بالأمس، فزاد عدد المعتقلين الذين أوقف إعدامهم واحداً اليوم، يقدّم له النصائح: “مهما امتد بك العمر، لن تحظى سوى بالإعدام. ليتك لاقيت حتفك في حقل الرمي، سيصيبك من الأذى ما لا يطاق، وتتمنى الموت ألف مرة (…) من حسن طالعك أنك طبيب، حاول أن تموت بسرعة، لا بد تعرف وسيلة مضمونة وسهلة”. ص (101).
تبدو شخصية المساعد ضرغام، جزءاً من بنية روائية تريد تشريح الواقع لكن من دون تنميط، وتريد أن تعكس في مرآتها الخطوط والظلال، لكن من دون أن تخفي الملامح والقسمات البشرية. ليس هدف الاهتمام بهذه الاستثناءات تحقيق توازن في مرافعة الادعاء التاريخية القاسية التي تقودها الرواية بصرامة، إنما إظهار المزيد من بشاعة التوحش وهمجيته عبر أنسنة الاستثناءات النادرة بصدق وإيمان بالغين. بمعنى آخر يلعب فواز حداد لعبة الاستثناءات بمهارة، يوازنها بدقة، لا يبحث عنها كي يقال إنه كان موضوعياً ولم يعمّم، فالاستثناءات غالباً ما تؤكد قاعدة الأشياء ولا تنفيها، وإلا لما تعامل معها الناس على أنها استثناء، لو لم تكن هناك قاعدة سائدة لا تشبهها. وهذا لا ينطبق على المساعد العلوي المتعاطف وحسب، وإنما على الرائد الدمشقي السنّي (مروان السنطري) الذي يريد أن يجاري نظراءه العلويين بالتوحش كي يثبت ولاءه للنظام، ويكسب ثقته وثقتهم.
في إحدى المواقف التي جمعته مع النقيب سليمان أثناء إحدى جلسات المحكمة الميدانية في حماة، يحاول هذا الرائد التقرب منه باختلاق كذبة كي يسترضيه، لكن النقيب لا تخدعه هذه المحاولة:
“لم تخدعه محاولة الرائد أن يبدو كريماً معه، نقطة ضعفه معروفة، كان يسترضيه والسبب واضح. الرائد ليس علوياً، مؤهلاته أنه سنّي دمشقي، يحمل قدراً لا بأس من خطايا النظام. في الفرع يشكّكون فيه، لا تدعمه غير قسوته ومبالغته في تنفيذ ما يوكل إليه كي ينال ثقتهم، تلك التي لا يمكن أن ينالها كاملة أبداً. ومع هذا سيظفر بمستقبل زاهر، كم سيدوم هذا المستقبل؟ سنة، سنتين، أكثر أو أقل؟ لا يهم. سيأتي يوم يذهب فيه ومعه الجرائم التي ارتكبها ولم يرتكبها. لو استطاع تبديل مكان ولادته لما حاول استرضاء أمثاله من الضباط العلويين” ص (63).
العلويون وعقدة دمشق
إن بناء هذه الشخصية الروائية التي سرعان ما تلقى حتفها على يد تحالف ضباط سرايا الدفاع والوحدات الخاصة في عملية اغتيال له أمام بيته على مرأى من حبيبته التي ترى المشهد من النافذة، لا يبدو منفصلاً عن المرافعة التاريخية التي تقدمها الرواية لتعرية الحالة الطائفية التي يستمد منها النظام عصبيّته، سواء من خلال سير الأحداث، أو سبر عوالم الشخصيات وعوامل تشكُّل رغباتها، وحتى علاقة (مروان) مع حبيبته (لميس) طالبة طب الأسنان التي تدّعي أنها دمشقية، ثم نكتشف أنها تستخدم اسم دمشق لتخفي انتماءها الطائفي المتوّج بكونها واحدة من المظليات اللواتي أطلقهن رفعت الأسد في مطلع الثمانينات كي ينزعن الحجابات عن النساء في شوارع دمشق، ثم حصدت علامات إضافية أهّلتها لدخول كلية طب الأسنان دون أن تكمل دراستها فيها بل لتفتح خط تهريب للمعدات الطبية، حتى هذه العلاقة تبدو جزءاً من تعرية الحالة الطائفية ذات البنية المتشابكة من العلاقات والتجاوزات والتعديات التي تحوّل المصائر وتصعد وتهوي بها، بعيداً عن أي فاعلية اجتماعية حقيقية للمكونات الأخرى.
ليست الطائفية التي تغوص هذه الرواية عميقا في أوحالها، سلوكاً مقتصرا على النظام أو عائلة الأسد وأقربائهم، هذه الفكرة المتعامية التي حاول الكثيرون تسويقها وتسويغها، يعمل فواز حداد على دحضها بجرأة وواقعية. فالسوريون يعرفونها تماماً ويتداولون تفاصيلها في أحاديثهم اليومية، لكن الأدباء ينكرونها حين يكتبون، فتأتي كتاباتهم مناقضة تماما لمعرفتهم بالواقع السوري المعاش.. ولعل أفضل ما يمكن أن يشكل مرآة لهذا السلوك، ليس العلاقة العدوانية مع مدينة حماة، بل مع دمشق.
ففي مرآة دمشق، ومركبات عقد النقص تجاه دمشق، تتبلور الرؤية الطائفية في أجلى صورها، ليس على شكل مجازر وإعدامات وانتقام متوحش كالذي جرى في حماه، بل على شكل علاقات اجتماعية متداخلة المستويات متعددة الأبعاد.. وما ادعاء (لميس) أنها دمشقية الأصل، سوى اختبار درامي لعلاقتها بالنقيب العلوي، لعبة افتراضية تكشف رؤية العلوي بوضوح لدمشق ومجتمعها؛ فحين تلمّح (لميس) للنقيب سليمان – بعد اغتيال حبيبها الرائد مروان السنطري- بإمكانية أن ترتبط معه بعلاقة حب، يتساءل الراوي الكلي المعرفة:
“هل يثق بما لمحت إليه؟ لا يجهل أن العلويين مكروهون، والدمشقيين مغلوبون على أمرهم، لا يغفرون لهم تسلطهم عليهم، ولا يتجرؤون على إعلان نقمتهم، بينما العلويون يحسون إزاءهم بالدونية، ويرغبون في إخضاعهم. لميس لا تدرك هذه الحقائق، لكن في حال وعتها وتجاوزتها فلا عائق في علاقتهما” ص (192).
عندما خرج النقيب سليمان من ضيعته لأول مرة في مطلع سبعينيات القرن العشرين قاصداً حلب، وهناك لجأ إليه خاله القيادي البعثي البارز، حين كان حافظ الأسد يحضر لحركته التصحيحية باعتقال القيادات البعثية التي طالبت بإقالته من وزارة الدفاع، فما كان من ابن أخته إلا أن وشى بخاله الذي كان يحتقره بطبيعة الحال، وخلال زيارته إلى دمشق للوشاية والإخبار، بدت صورة المدينة وأهلها كالتالي:
“زيارته المحبطة إلى دمشق ستؤدي به إلى أن تصبح العاصمة هدفه، هناك العالم والحياة، أما الضيعة فليست عالماً ولا حياة. وسيكره الدمشقيين، ويخطر له التخلص منهم. لم تكن الفكرة غريبة، كان الحزبيون الريفيون يعتقدون ان الثورة هدفها غزو دمشق. بالاستناد إلى أن البرجوازيين الإقطاعيين في زمن ما اضطهدوا القرويين عامة وسخروا منهم، خصوصا الحوارنة والعلويين، وبما أن الدمشقيين برجوازيون وإقطاعيون، فحان أوان سداد الدين” ص (73).
وفي حوار أخر بين النقيب سليمان وأحد أصدقاء طفولته (أحمد) يقول سليمان: “هذا زمن العلويين” يرد عليه أحمد: “سيصيبنا بالويلات” ثم يتابع الراوي:
“لم يقلها أحمد اعتباطاً، كان طموح الكثيرين ممن هبطوا في دمشق وضاعوا فيها، التخبط بين رغبتهم بالانتقام منها والاستحواذ عليها. عندما يلتقي بصديقهم عارف تتردد في أحاديثهم نغمة الانتصار ما يبيح لهم انتهاكها، كأنهم هم الذين تغلبوا عليها لا العسكر، ورطوا أنفسهم بكراهيتها تحت زعم القضاء على البرجوازية” ص (265).
هذه الصورة التي يرسمها العلويون لدمشق انطلاقا من عقد نقص واستحواذ شخصية وجمعية في آن، سرعان ما تتسع ملامحها وأبعادها، حين تندلع الثورة التي تهدد بقاء النظام، هنا تمضي الرواية إلى الفضاء الاجتماعي الأوسع، فضاء العلاقة مع السوريين ككل، وتصبح الثورة اختبارا دراميا وسياسيا لمقولة “الطائفة المختطفة”. إن ما تقوله الرواية على لسان النقيب سليمان، يأتي تكثيفا تاريخيا بليغا لصورة العلوي ابن السلطة في الوجدان السوري، والأخطر: لصورة السوري- الآخر في وجدان العلويين، فكل السوريين من كل الطوائف هم “آخر” وليس “نحن”، آخر ينبغي إخضاعه مهما كانت مكانته ومزاياه. والحوار التالي يجري بين “نحن العلويين” أي سليمان وابن ضيعته:
“علينا نحن العلويين إدراك أن السلطة حكر لنا، لا تقل لي إنك تجهل ما قدمه الرئيس الخالد. منح الطائفة كل ما حرمت منه.. المال والنفوذ، المؤهل الوحيد لأي واحد منا أنه علوي. الرئيس الابن لم يقصر، سار على نهج أبيه. أعطى العلويين تجارات وتعهدات ومناصب، وفتح لهم خطوط التهريب والممنوعات. لم يحاسبهم على جرائمهم وسرقاتهم وعصاباتهم. وأفسح لهم المجال لاحتلال مختلف المواقع في الجيش والمخابرات والدولة والإعلام والصحافة.. من الوظائف الصغيرة إلى الكبيرة. حتى المعارضة لم تخل منهم، كانوا وحدهم سورية وبلا شريك. غيرهم من الطوائف لم يكونوا سوى ملحقين بهم، لم نُرضهم سوى بالفتات، وإذا كان أكثر فنحن شركاؤهم، لنا الحصة الأكبر مما يكسبون. هذه نعمة ينبغي الحفاظ عليها والدفاع عنها. اعترض أحمد: الكثيرون منا لم يحاولوا الانتفاع، كانوا فقراء ومازالوا. سليمان: حتى الفقر انتزعناه منهم. لم يجر الاعتراف إلا بفقرائنا، كأن لا فقراء سوانا. هل سيفهم صديقه الغبي الطيب أن موعد السداد حان؟ ليس بلا مقابل، لقد أعددناكم لهذا اليوم” ص (461).
القانون محورا للصراع الدرامي!
يفكك فواز حداد المحرك الذي يقود عجلة الحياة في سورية الأسد، وكي يوضح كيف يدور وما هي القوى المحركة له، يرصد أبرز صراعات تلك الحقبة:
– الصراع بين الطائفية وقيم الوطنية والمشاركة.
– الصراع بين قوة القانون النظرية وسلطة أجهزة المخابرات الفعلية.
– الصراع بين قدسية الله، وقدسية حافظ الأسد.
يفتح الصراع بين الطائفية والقيم الوطنية الباب واسعاً أمام حالات المحسوبية والفساد.. ولهذا لم يكن رجال القانون الذين أدخلهم فواز حداد إلى روايته كأبطال دراميين: القاضي سليم الراجي، والأستاذ رشدي المستشار في محكمة النقص، مجرد حالة تنوع مهني لشخصيات الرواية، فهذه العقلية لا بد أن تصطدم بالقانون في كل حركة وسكون، لا بد أن تدوسه وتسفه قيمه، وتنال من حضوره وقوته، لابد أن تجعله عاجزاً مجردا ليس من أسلحته فقط في مواجهة سلاح الطائفة، بل من قدرته على الفعل والحركة.
الصراع الدرامي هنا هو بين رجال قانون شرفاء يأملون ألا يستشري الفساد في مؤسسات الدولة أكثر، وإن اشتطت بهم الآمال بعيداً، تاقوا إلى المساهمة بشيء من الإصلاح، وبين رجال مخابرات متنفذين، ومرتبطين بالقصر الجمهوري بطبيعة الحال، القانون بالنسبة لهم ألعوبة أو ذريعة، وفي أفضل الأحيان ملف فساد مليء بالمعلومات لكنه مؤجل حتى يحين استخدامه على سبيل الانتقام السياسي، وليس كرمى لعيون الوطن أو العدالة.
ولعل أجمل ما في هذا “الصراع الدرامي” أمانته الشديدة لواقع الحال. إنه صراع رغبات لا صراع قوى. فمن السخرية أن نقول أن رجال القانون مهما علا شأنهم يملكون قوة أو حصانة حين يكون الطرف الآخر هو أجهزة مخابرات.. وحتى على صعيد الرغبات: هو صراع رغبات منهكة ومقهورة. ولعل القارئ سيتنفس الصعداء حين يتمكن الأستاذ رشدي مثلا، أن يطوي – مستعينا بعلاقاته مع حزبيين نافذين – ملف (خلية القضاة) الذي فبركته إحدى أجهزة الأمن للنيل منه، واستدعت مجموعة من قضاة القصر العدلي للتحقيق معهم.. فهذا “الانتصار” هو أقصى ما يمكن بلوغه في دولة اللاقانون، أما سوى ذلك.. فسيتحول الأستاذ رشدي، هو والقاضي سليم الراجي إلى متعاون مع الجهاز الخاص الذي أسسه النقيب سليمان في القصر الجمهوري، لكن النتيجة التي يصلان إليها لا تبدو مخيبة لآمال شخصيهما فقط، بل تعبيراً عن فجيعة وطن بأكمله:
“مهما كان ما جرى وما قمت به، فقد أصابني بالأسى واليأس، صورة البلد انكشفت في العمق، كانت ممزقة تتقاسمها إقطاعيات نافذة، تسعى للاستيلاء على كل ما يدر مالا: تعهدات، استيراد سيارات، دعاية، سياحة وآثار، حفلات فنية، دراما تلفزيونية، مخدرات… قد تتشابك المصالح وتتناقض وتشتد المنافسات والخلافات، تحصد ضحايا ضعفاء أما الأقوياء فآمنون. الصورة مرعبة لا مكان لنا فيها، ومضادة لأي تغيير إلا في الاتجاه نفسه. الدولة التي نعرفها في اضمحلال لصالح مراكز القوى المتسللة في وضح النهار إلى مؤسساتها ومرافقها، في كل يوم تقضم شيئا منها. لم تكن السيطرة على الهيئة والقضاء إلا نموذجا شبيهاً لما يحدث في قطاعات الدولة المختلفة، تتراوح نتائجه بين الاحتلال الكامل والاحتلال الناقص، ولم يكن نقصانه إلا تمهيداً لاستكماله” ص (354).
بهذه اللغة ذات الحس التراجيدي العالي، ودقة التصويب وعمق النفاذ إلى الجوهر من خلف مجموعة من المشاهدات والتفاصيل والمظاهر، يختزل فواز حداد حال القانون والقضاء، يضعها في سياق صورة البلد التي انكشفت لرجال القانون اليائسين، حين أتاح لهم أحد أقوى الأجهزة الأمنية، فتح الأبواب المغلقة، والدخول في متاهات ودهاليز الفساد، لكن ما أدركه الأستاذ رشدي من هذه المهمة، كان أقسى من النتائج والتجاوزات التي ضمنها في ملفاته:
“أدرك الأستاذ رشدي أن الملفات التي أسهمنا بها ستكون يوما ما سيفاً مسلطاً على أصحابها لضمان عبوديتهم. أصبح أكثر إيمانا بأن عجلة الفساد لو أصابها عطب لتوقف الحياة في البلاد، لقد حافظنا على ديموتها وحسن دورانها. كنا نعمل ضمن الشبكة الأخرى للفساد، وساعدنا على ترسيخ ما نحن ضده”، ص (355).
بعبارة أخرى كان الإصلاح يتم على أيدي المجرمين أنفسهم.. ولأنه كذلك فلن ينتج سوى مزيد من الجرائم تحت عباءة محاربة الفساد.
دراما الإلحاد وتأليه حافظ الأسد!
الصراع الدرامي الأكثر إثارة هو صراع التأليه. محاولة العلويين إحلال حافظ الأسد مكان الإله. “الله هو المطلوب رقم واحد في أجهزة المخابرات السورية”، جملة شكسبيرية إعجازية يوردها فواز حداد تختزل هذا الصراع. وعبارة: “حلك يا الله حالك.. يقعد حافظ محلك” التي انتشرت بعد مجزرة حماه، ليست مجرد شعار غوغائي مفرغ من مضمونه. إنها مثل: “قائدنا من القرداحة.. بيعطي على الله لاحة” هي تعبير عن هوس طائفي في محاكاة العبودية المطلقة التي يكنها المؤمنون لله عز وجل.
يحضر حافظ الأسد كشخصية روائية في (السوريون الأعداء) بصفته “الرئيس”. حين يقابله النقيب سليمان أو “المهندس” كما لقبّه، مستفيداً من رصيد نذالته بعد أن وشى بخاله الذي لجأ إليه هارباً، ثم تتكرر اللقاءات مع الرئيس، يستمزج رأيه بفكرة تنصيبه إلهاً لا حاكما مطلقاً أو شخصا مميزا بين البشر وحسب، والحوار الذي يدور بينهما، يبدو من أكثر حوارات الرواية حساسية درامية:
“لم يجد رابطاً بين المديح المبتذل وتشبيهه بالله، كان انحرافا نحو الإلحاد؛ المهندس يلقي الكلام كيفما اتفق. تساءل بانزعاج: هل أنت ملحد؟ عصر المهندس دماغه ليؤيد فكرته لا إلحاده. ما الذي يرضي الرئيس، أن يكون مؤمنا أم ملحدا بالنسبة إليه سيان. كان يظن أن الرئيس ملحد، بينما بدا له الآن مؤمناً، فلينهج نهجه المحير: لا أدري أحيانا أجد نفسي ملحداً. تظاهر أنه يتكلم عن شيء آخر، يبرر به مصادفات إلحاده النادرة، استثمرها في البرهنة على أن السماء فارغة من الله، دليل وفره تتالي عصور مظلمة خلت من الخالق، وأجيال من شهود العيان لم يروه”. ص (303)
تنسجم هذه الأجواء الإلحادية مع إلقاء المهندس لفكرة التأليه كحجر في بحيرة ساكنة يتبدى تأثيرها بما تحدثه دوائر.. ولو بطيئة. حافظ الأسد يرفض في البداية لكنه لا يغضب، ثم يتقبل ويعيش في رغد الفكرة الآثمة التي تحاكي تطلعاته الداخلية. تتضافر في دفعه نحو ذلك شخصيته الماكرة، حين يبدوا شاردا عن محدثه وكأنه لا يعني بما يسمعه، بينما هو منتبه يقلب الأفكار على أكثر من وجه، ويفتح الطريق لصاحب الاقتراح لتنفيذه على مسؤوليته، فإن أخفق حوسب، وإن نجح فبوحي من توجيهاته الحكيمة!
تدحض حالة المكر هذه، فكرة الذكاء المطلق للأسد كشخصية روائية هنا، فالمكر هو مزيج من الحذر (الإحساس العالي بالخطر أو استباقه) والتنصل والخداع، أما الذكاء فآلياته مختلفة.. وبالطبع فإن بوابة التأليه كما يراها المهندس هو نشر صور حافظ الأسد في كل مكان، ولاشك أن فواز حداد قد استفاد من كتاب (السيطرة الغامضة)، لليزا داوين في تحليل دلالات الرموز والصور التي طبعت مرحلة حافظ الأسد، لكنه استطاع بتمكنه الفني أن يدخل تلك الأفكار في النسيج الروائي بعبارات من قبيل: “الرئيس في كل مكان مثل الله” أما الهدف الأعلى لهذا التأليه، فهو أن تخرج عملية تأييد الرئيس من آليات الولاء السياسي حتى في حدوده المطلقة ونسبه المئوية التامة، إلى حالة العبودية: “الرئيس في يوم مقبل سيمثل الله. والتعبير عن الولاء لن يكون أقل من العبودية له” ص (317)
الصراع حول وجود الله، لا يقتصر على مشروع تأليه الأسد، بل يتكامل مع الاجتراء على سحق البشر وتعذيبهم حتى الموت في سجون النظام، وأشهرها سجن تدمر، الذي يقاد إليه الطبيب (عدنان الراجي) شقيق القاضي وأحد أبطال الرواية، ليعيش سنوات الجحيم الأبدي.
في ذلك الجحيم يفقد حتى من سجنوا لأنهم من التيار الإسلامي، بعض إيمانهم بعد أن يتحداهم جلادوهم أن ينقذهم الله مما يتعرضون له تحت سياطهم ودوس بساطيرهم ولهيب كابلاتهم الرباعية.. فيغدو الكفر بفكرة الإله الذي سيحاسب هؤلاء صناعة. محور هذه الصناعة أن غياب الله من القلب والوجدان سيجعل هؤلاء الجلادين أكثر حرية في القتل والسحل والتعذيب.. وسيجعل ضحاياهم أكثر يأسا في المقاومة والصمود، وأكثر استسلاما للقدر الأسدي الظالم بديلا عن القدر الإلهي العادل يوم الحساب.
إن حوارات الشك والتجديف التي تبدأ في الفصول الأولى من الرواية بين الرائد السني مروان السنطري، والنقيب العلوي سليمان، ليس الهدف منها الاستعراض الصادم لتلك الأفكار، بقدر ما يؤسس عليها فواز حداد، مناخا عاماً، لبلاد بات جبروت الظلم فيها، يتحدى الإيمان بالله وقانونه الإلهي، مثلما يتحدى القانون الوضعي كذلك.
هذا الانهيار يؤسس لكثير من المشاهدات التي يبرع فواز حداد في متابعتها مع معاناة الطبيب عدنان ورفاقه في سجن تدمر. هناك حيث لا يتصور عقل بشر أن معركة الاحتفاظ بالإيمان، أكبر من معركة الكفاح الإعجازي الجبار للبقاء على قيد الحياة فيما اليوم ماثلا في كل لحظة أمام أعينهم.
هندسة المعمار الروائي
مع أن من الصعب في هذه الدراسة الانتقال بسهولة من زخم كل هذه الصراعات وتفاصيلها المذهلة على صعيد المضمون إلى تأمل الشكل الفني، فإن من الواضح أن الإلمام بكل هذه التفاصيل والمحاور والمسارات، تطلب من فواز حداد العمل على هندسة معمارية ذات أساسات متينة حتى لا تضيع منه ومن القارئ الخطوط، أو يتباطأ نمو صراع على حساب آخر، في حين أن كل منها – موضوعيا – يفضي إلى الآخر.
قسم فواز حداد روايته إلى قسمين أساسين:
– الأول: بلاد الموت والخلود وتبدأ من مجزرة حماة في شباط عام 1982 وأن عادت في امتداداتها الزمنية إلى انقلاب الحركة التصحيحية عام 1970، واستمرت حتى سنوات توريث بشار الأسد الأولى
– الثاني: عالم جديد ويبدأ من اندلاع اضطرابات في تونس نهاية العام 2010 واندلاع ثورات الربيع العربي، ثم تفجر الثورة السورية عام 2011 وما تلاها من أحداث الجامع العمري في درعا في شهر آذار، وصولا إلى اقتحام الجيش لمدينة حماه في شهر آب 2011، وتوسع رقعة المظاهرات والاحتجاجات على كامل خارطة البلاد تقريباً.
وضمن هذين القسمين الكبيرين، ثمة فصول عديدة، كل فصل منها يشمل مسارات ثلاث: مدخل القاضي سليم الراجي. مسار النقيب سليمان في مواقعه وتنقلاته المختلفة، ومسار الطبيب المعتقل عدنان الراجي وعذاباته متنقلا من لحظة اعتقاله في حماه إلى فروع الأمن بدمشق وانتهاء بجحيم سجن تدمر.
كل هذه المسارات تنمو داخل الفصل الواحد، وتسير في خطوط متوازية، يتوازى معها السرد، مثلما يتوازى الرواة.
فافتتاحية سليم الراجي في كل فصل، تتم بصيغة (أنا) المتكلم دائما، أي الراوي الذاتي الذي يروي جانيا من سيرة حياته ومشاهداته. وباقي المسارات تقدم بصيغة (هو) أو ضمير الغائب.. من خلال راوٍ كلي المعرفة، يقود السرد كما يقود تطور بناء الشخصيات ويختبئ داخلها أحيانا ليكشف رغباتها الداخلية.
لسنا أمام حالة تعدد أصوات كاملة، ولا صوت راو وحيد، لكننا أمام حالة ثنائية يتناوب فيها الراوي الذاتي والراوي الموضوعي، فيكمل كل منهما الآخر، وتتحول بنية السرد إلى مزيج فريد من تأملات سيرة ذاتية مفترضة، وسرد موضوعي عام.
إن هذه البنية المتشابكة، بقدر ما تبدو معقدة في ظاهرها، إلا أنها تسهم في إشادة عمارة الراوية وإغنائها وحسن تبويبها، فكأن فواز حداد كان يسلك بنا أكثر من درب، ويدفعنا للسير في أكثر من خط بالتوازي كي يضبط هذا الطوفان الهائل من الوقائع والأفكار والتأملات التي ترسم العالم السوري المأزوم.
ملاحظات وإشكاليات
تبقى الملاحظة الأساسية على الرواية هي قلة عدد الشخصيات قياسا لحجمها الكبير، والفترة الزمنية التي تمتد عليها رقعة الأحداث.. وبعض الاضطراب الذي تعانيه بنية البطل السلبي في الرواية (النقيب سليمان) فهل حقا تؤهله سيرته المحدودة في الجيش، وفشله الدراسي، في أن يكون “مهندسا” لسياسات كبرى من هذا النوع، وقد بدأ حياته واشيا صغيراً بمرحلة دراسية فاشلة للعب هذا الدور؟
بلاشك إن وشايته بخاله وشخصيته الوضيعة أخلاقيا وقيميا هي ميزة في سلم معايير النظام، وحافظ الأسد شخصياً اعتمد بالأساس على أشخاص وضيعين وسفلة كي يشيع موت قيم الشرف في نمط إدارة الدولة.. لكن أعتقد أن بنية شخصية المهندس كان تستحق تأسيسا أغنى في بعض الجوانب، قياسا للدور الذي اضطلعت به. كما لا يفوتنا تأمل ضآلة حضور الشخصيات النسائية في الرواية ككل، رغم أهمية شخصية (لميس) والتحولات التي تعبرها لتكشف بنيتها النفسية البالغة الثراء دراميا.
ورغم أن الكاتب استطاع بناء شخصية حافظ الأسد الروائية بشكل مقنع، ويتقاطع إلى حد كبير مع الانطباعات العامة السائدة عنه، وركز على دوره الشخصي في صياغة معايير مافياوية في إدارة الدولة وانتقاء رجالها، إلا أن تصوير معركته في لبنان على انها انتصار انتهى بإجبار الرئيس أمين الجميل على إلغاء اتفاق 17 أيار مع إسرائيل، لا يمكن وضعه في سياقه الصحيح، إلا إذا اقترن مع التذكير بدور نظامه في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وحصار عرفات في طرابلس وقصف المدينة وتجويعها قبيل خروج المنظمة بحرا إلى تونس في المرحلة نفسها. من دون التوقف عند هذا الحدث سيبدو إلغاء اتفاق 17 أيار انتصارا مشرّفاً، رغم أن حافظ الأسد تاريخيا لم يحقق أي نصر مشرّف في مسيرته كلها، لا سياسيا ولا عسكريا، دائما كانت انتصاراته مجللة بالعار، بدءا من حركته التصحيحية التي غدر فيها حتى بأستاذه صلاح جديد، ومرورا بـ “انتصار” مجزرة تلك الزعتر عام 1976، وليس انتهاء بـ “نصره” في حماه المعمّد بالدم والدمار والأشلاء!!
رواية الخراب ودليل الإصلاح!
إن رواية (السوريون الأعداء) بقدر ما تبدو دليلا للخراب السوري الشامل الذي أحدثته حقبة حافظ الأسد وامتدادتها المدمرة في مسار الحياة السورية على كافة الصعد، وفي جعل العلويين أعداء للسوريين، بقدر ما يمكن أن تكون دليلا للإصلاح في زمن ما، إذا أراد أحد أن يعرف أو يفهم ما هي سورية التي ورثها حافظ الأسد لابنه، ثم لم يبق فيها ابنه حجرا على حجر؟! ما مشكلتها؟ ما نوع الفساد الذي كان يحكمها لعقود؟ كيف يموت البشر فيها ويحيون؟! كيف يُتهمون ويبرؤوّن؟ كيف يعذبون ويكافأوون؟
ستتعلم من هذه الرواية معنى الدولة المتوحشة التي تحدث عنها ميشيل سورا في كل تجلياتها وصورها، ستفهم آليات صعود إدارات أجهزة الأمن وصراعاتها، والحروب التي تدور بين مدرائها ليس من أجل حفظ أمن البلد أو النظام أو اختلاف وجهات نظرهم حول السبيل لتحقيق ذلك.. بل من أجل اختراع أي ملف يصعدون سلطوياً من خلاله على أرواح الأبرياء وهم يخترعون خلية وهمية ثم يضخمونها ثم يفككون خطرها، بعد أن يدمروا حياة عشرات الأبرياء ممن لا ناقة له ولا جمل.. لا في الكذبة التي اخترعوها، ولا في المكاسب التي سيجنوها.
* إن رواية (السوريون الأعداء) هي رواية الوجع السوري التاريخي، الوجع الذي دفع السوريون ثمنه سنوات أعمارهم ومستقبل أولادهم والكثير من مستقبل وطنهم. يبدعها روائي شجاع اتخذ من الكتابة وسيلة لتسطير شهادته على عصر عاشه وسعى بصدق لكشفه وتعريته وهدم حجبه وإسقاط أقنعته. فكانت شجاعته المقترنة بالمقدرة الفنية، امتيازا رفيعا يستحق وسام الضمير. لا شيء سوى الضمير.
-
المصدر :
- أورينت نت