لم ينشأ في العالم خلاف حول مصطلح “التطرّف”، ولا يعني أكثر من التشدّد والابتعاد عن الاعتدال. أمّا الخطر، ففي التمسّك بأيديولوجيات مغلقة، ومؤخّراً أصبح مرتبطاً بالدين، إلّا أنّه في الحقيقة قد يتعلّق بأية معتقدات.

يمكن إدانة التطرّف في حال استخدَم العنف وسيلةً لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو اجتماعية، لكن ليس قبل تقدير الظروف الموضوعية، والعنف ذاته، هل كان مشروعاً أم لا؟ عموماً، لا يجوز إطلاق الاتهامات جزافاً، وإنما بطرائق موضوعية من جهات ذات نزاهة أخلاقية. هذا لم يمنع بعض الدول من التلاعب بالتطرّف والعنف، وجعلهما صالحين للاستخدام سلاحاً ضدّ جماعات تدافع عن حقوقها.

تحاول الحكومات إعادة تعريف التطرّف من خلال تقييم حالة الانحياز إلى الفلسطينيّين، على أساسها سيُحظر على جماعات وأفراد يمسّهم التعريف الجديد تلقّي الدعم الحكومي، ومنعهم من العمل مع مؤسّسات الدولة، باعتبارهم مشبوهين. الإجراءات المتوقَّعة موجَّهة ضدّ نشطاء “حملة التضامن مع فلسطين” الذين نظّموا في مختلف بلدان العالم سلسلة من المسيرات السلمية. بالتالي سيتمّ، من خلال تحديث مفهوم “التطرّف”، استغلاله أداة لمعاقبتهم.

لا يحقّ لحكومات تسيّرها المصالح الضيقة إعادة تعريف التطرّف

ليست هذه المرّة الأُولى التي تلجأ فيها الحكومات لاستثمار مفهوم التطرّف على نحو متطرّف، إذ لها سوابق معتبرة غير قانونية، ففي القرن الماضي، وُصفت الناشطة إيميلين بانكهيرست، داعية تحرير المرأة، بالتطرّف الاجتماعي لمطالبتها بحقّ المرأة في التصويت، كما اتُّهم المهاتما غاندي بالتطرّف السياسي لمطالبته باستقلال الهند. اعتُبرت طروحاتهم خارجة عن المنطق العام، ولا يمكن القبول بها، فعوقبوا بالنبذ والتجاهل والاضطهاد، ما أدّى إلى تجريمهم وسجنهم.

في الحرب على غزّة، تساند حكومات غربية “إسرائيل”، على الضدّ من مظاهرات عارمة تجري كردّ فعل على دعمها للحرب في بلدانها. مع تمدّد الاحتجاجات إلى داخل مختلف المؤسّسات الإعلامية وغيرها واستمرارها في الشوارع، تعالت تصريحات لسياسيين تُندّد بها تحت زعم أنّ الغوغاء يهدّدون النظام الديمقراطي، مع أنّ الديمقراطية تتميّز بأنّها تسمح بالتعبير عن الرأي المخالف.

بيد أنّ ما يدور في كواليس السياسة، وبدأ بالتسرّب إلى العلن من خلال الصحافة، هو اعتبار المحتجّين السلميّين متطرّفين خطرين وحاقدين. أمّا المدافعون عن حرب لا يمكن وصفها إلّا بأنّها حرب إبادة، فوُصفوا بالاعتدال والاتزان والجديرين بالاحترام، وحذّروا من تمزيق الوحدة الوطنية للبلاد التي اختطفها دعاة يروّجون للجهاد، لمجرّد أنّ المحتجّين يلاحقون السياسيّين ويتّهمونهم بأنّ أيديهم ملوّثة بدماء ضحايا غزّة المدنيّين.

ينطلق الدفاع عن مجازر غزّة، بعد محاولات التعتيم عليها، من خلال وسائل الإعلام، وذلك بالتقليل من معاناة الفلسطينيين وعدم انتقاد الروايات الإسرائيلية. بعد أشهر بات من المستحيل تجاهُل ما أصبح معروفاً تثبته الوقائع، فغزّة أصابها دمار شامل إلى حدّ غيّر معالمها، أو لم يعُد لها معالم، بعدما سُوّيت بالأرض، إضافةً إلى مذابح جماعية أزهقت أرواح ما يزيد عن ثلاثين ألفاً من المدنيّين، حتى إنّ القصف الشديد لم يسمح بدفن الضحايا، وأفادت التقارير بأنّ الكلاب الجائعة تأكل الجثامين المتحلّلة.

بات من غير الممكن للحكومات ادعاء الجهل، طالما أنّ المسؤولين الإسرائيليّين أبلغوا العالم وبصوت عالٍ بما سيفعلونه بالضبط، وذلك بتجويع “الحيوانات البشرية”، وعدم تقييد جنودهم عن استعمال القوّة المطلقة، ومعاقبة المدنيّين باعتبارهم مسؤولين جماعياً عن السابع من أكتوبر، ومحو قطاع غزّة من على وجه الأرض.

يعيد التاريخ إلى الذاكرة، لئلا يغيب عنّا، أنه مثلما تمّ الاعتراف فيما بعد بكفاح بانكهيرست وانتصارها لحقوق المرأة، تمّ الاعتراف باستقلال الهند، وأصبح غاندي المتّهَم بالتطرّف أيقونة اللاعنف في كفاحه ضدّ الاستعمار. وإذا كان لنا أن نتذكّر الذين سجنوهم، فلن يظفروا إلّا بالإدانة.

عموماً، لا يحقّ لحكومات تسيّرها المصالح الضيقة، إعادة تعريف التطرّف، ما يحتاج إلى بصيرة سياسية وشرعية أخلاقية، تفتقد إليها. إنّ المحاسبة الصحيحة تُجرّد من المصداقية حكومات برعت في قلب الحقائق، واعتمدت المعايير المزدوجة، والسعي وراء المنافع السياسية.

هذه المحاسبة لا تُميّز بين الديمقراطيات والدكتاتوريات، إذ لا شأن لأنظمة الحكم بترجيح الكفّة إلى طرف. ولا يعني أن تكون هناك ديمقراطية مزدهرة أو شكلية، أو دكتاتورية منحطّة لها الحقّ في تبرير الجرائم ومنح القتلة البراءة تحت عنوان الدفاع عن النفس. إنّ الاتهام على علاقة بالشرّ المتخفّي وراء حذلقة السياسيّين، ولن تضلّ العدالة الإنسانية عن محاكمتهم كمجرمين فقط.