الروائي السوري فواز حداد
المؤسف أن الأدب بشكل عام، لا يغير من موازين القوى على الأرض، ولا يشكل مركز ثقل في الثورة والحرب، ومن نافل القول أنه بلا جدوى، مع أن الأدب سلاح، لكنه غير قاتل. من هذا الجانب، يتبين لنا ما فعلته الرواية مثلًا لهذه الثورة التي قدمت مئات آلاف الشهداء، أو لهذه الحرب التي أصبحت لغزًا قاتلًا بتحولاتها الدموية، واختزنت في داخلها حروبًا أهلية ومذهبية وطائفية وأقليمية، وتجاذبات دولية.. واسقطت ما قامت الثورة لأجله، حتى تبدو وكأنها عودة الى الأيديولوجيات التي كان من شعاراتها؛ الحرية والعدالة، فالحرية أدت الى المعتقلات، والعدالة إلى الظلم.
مع أنه كان في التظاهرات والاحتجاجات إعادة اعتبار لهذه الشعارات، وأيضًا لشعب واحد وسورية موحدة، تلك التي غيبت في السجون، وكانت مفتقدة طوال أربعين عامًا، جرت استعادتها كهتافات مضادة للطغيان. أجاب عنها القناصة، والبراميل المتفجرة والسواطير، والأعلام السوداء وقاطعو الرؤوس والميليشيات المذهبية… هذا المشهد يتكرر يوميًا بشكل أو بآخر دونما انقطاع على مدار خمس سنوات، يستعصي على كاتب تجنبه، ولو كان بأمان منه، ونجاته كانت محض مصادفة، كاد أن يكون قتيلًا، أو ميتًا تحت التعذيب، جريحًا أو معوقًا، سجينًا أو محاصرًا معرضًا للجوع أو الركوع. الخيارات القسرية متعددة، ونهاياتها محددة بالموت.
الأدب قاصر لأنه يؤثر في العقول والقلوب، وما تأثيره فينا إلا في رفع قدرتنا على التعامل مع الحياة، والدفع إلى تغييرها بجهد إنساني، واكتشاف منابع السعادة والفرح. وهي نظرة متفائلة إلا أن الواقع ضنين بها، لكن الإنسان يتغلب عليها. الأدب فظ أيضًا، لا يخفي جوانب الحياة السيئة والأسوأ، مهما كانت واقعيته طبيعية أو سحرية، أو لها علاقة بالأحلام، ما دام بمقدور الطغيان تحويلها إلى كوابيس. الأدب لصيق بالبشر وبالحرية، ثمة علاقة حميمة تربطه مع الكثير من التساؤلات التي تمسنا، وماذا تكون إلا عن حياة بلا حرية، وعيش بلا كرامة.
الكتابة أشد ما تكون ضرورتها للكاتب، فهي تعبير عن موقف، احتجاج على القمع، الدفاع عن القيم الانسانية… وفي هذا لا يعبر عن نفسه فقط، بل يعبر عن شريحة كبيرة، اضطرهم الاستبداد إلى الصمت، ومعهم جحافل من البشر المغيبين، والمحاصرين تحت وطأة الجوع والموت.
في أزمنة الثورة والحرب، تتولى الكوارث صناعة الأدب، وربما في الكتابة في آتون الحرب حرارة قد تفتقد فيما بعد، ففي جانب منها تكتب التاريخ كشاهد عيان، فالأحداث طازجة، عدا حيويتها المريرة والفاعلة كتسجيل مضاد لحاضر يزور الآن، كما نشهده في وسائل التواصل والإعلام التي تنشر الحقائق مع أكوام من الأكاذيب، فظاهرة إنكار البراميل المتفجرة وقصف المدنيين والمستشفيات والأفران تسهم في التعمية عليها دول كبرى، رغم أن الحرب اليومية تؤكدها بالصور الحية، وما إنكارها من المجتمع الدولي إلا ليغطي عجزه عن منعها. ومهما كان ما يكتب الآن، فالحكم على مقدار جودته، يستحسن تركه الى ما بعد، الأفضل أن نبحث عن مقدار الحقيقة التي يحملها، والجيد منها لن يعوزه الفن. أما إدعاء النقد المشبوه أنها بلا قيمة فكذبة كبرى، فالصحافيون والمتشبهون بالنقاد، يتعاملون مع الكتابة حسب انحيازاتهم، لذلك لن نعدم قراءات طائفية من الموالين للأنظمة سرًا أو جهرًا، وفي أفضل الأحوال قراءة سياسية تأخذ جانب ما يدعى محور الممانعة والمقاومة الذين يتعيشون في دعاواهم على خلط أوراق الثورة بالإرهاب.. وعلى رأسهم مثقفون يتسترون بالعلمانية، فلا عجب أن يقرأ النقد المحابي للنظام الرواية بعين إرهابية، لإنكار ما يجري على الأرض.
لم يمتد العمر بالروايات الكبرى إلا لأنها تواطأت مع الحقيقة، وكانت المرآة لمسيرة الإنسانية الظافرة والمؤلمة… التي لا تنفصل عن واقع معاند وقاس، فكانت الاختبار الصعب للبشر. وإذا كانت الرواية عاجزة عن تغيير الواقع، فلأنها لا تملك وسائل الإجبار، وهذا من حسن حظها، لكنها تمنح القدرة على التأثير في البشر من خلال إعادة النظر الى كل ما ألفناه واعتدنا عليه، والتجرؤ عليه، ورؤية تعدد أساليب تغييره، بحيث يصبح نضال الإنسان ما هو إلا العمل المتواصل على إزالة أقانيم الطغيان والاستبداد والخرافة والأفكار الثابتة، وما الروايات التي تكتب إلا انعكاسًا وتكريمًا لهذا الجهد الانساني.
منحتنا الثورة فاصلًا من الحرية على الرغم من هذا الخراب الشامل الذي امتد إلى دواخلنا، ولا شك أن لاشيء يشجع على الشعور بالحرية، لكن لابد من الإحساس بها، والتعبير عما اختزناه من قهر وقمع وتشويه، وإذا كنا غير متفائلين، فلأننا ربما كنا على أهبة دخول عصر طغيان آخر، هذا ما يبشرنا به الروس والأمريكان وداعش والقاعدة.
*************
فوّاز حدّاد في سطور:
فوّاز حدّاد كاتب سوري من مواليد دمشق 1947.
حصل على إجازة في الحقوق من الجامعة السورية 1970. وتنقل بين عدة أعمال تجارية، امتدت سنوات طويلة.
كتب ويكتب المقالة الصحفية والقصة القصيرة والمسرح والرواية، دون أي محاولة للنشر قبل مطلع تسعينات القرن الماضي.
شارك قبل الثورة السورية كمحكم في “مسابقة حنا مينة للرواية” التي تشرف عليها وزارة الثقافة، و”مسابقة المزرعة للرواية” في السويداء. كذلك ساهم في الإعداد لموسوعة “رواية اسمها سورية”.
في العام 1991 أصدر “حدّاد” روايته الأولى “موزاييك – دمشق 39″، والتي أعادت “دار رياض الريّس” في بيروت نشرها مؤخرًا إلى جانب روايته “تياترو 1949″، ويستمد الإصداران –بحسب الناشر- راهنيتهما في أن الرواية الأولى تتحدث عن المخاض الذي عاشته سوريا ودمشق خاصةً زمن الانتداب الفرنسي في سوريا وكيف كانت تلك السنة الحاسمة وما فعلته دمشق مع الفرنسيين وعلاقة السكان مع بعض ومع الاجانب في المدينة وعن الحياة الاجتماعية وقتها والعادات والتقاليد التي كانت سائدة تحديدًا في 1939، حيث يدخل “حدّاد” شوارع دمشق وحاراتها ناقلًا تفاصيل انطباعات الناس وحتى الوزارات، والدوائر الحكومية، ورئاسة الحكومة، ويرصد التطورات السياسية التي جرت في تلك الايام ووقعها على الناس في دمشق.
أما “تياترو 1949” فيعود فيها السارد إلى أواخر أربعينيات القرن العشرين، وبالتحديد إلى الفترة الممتدة ما بين عامي 1948 و1950 لا ليرصد الصراع على السلطة، الذي وجد تعبيراته في الانقلابات العسكرية فحسب، بل ليصوّر ما تركته تلك الانقلابات من آثار سلبيّة على مجمل الحراك الإجتماعي وفعالياته وآفاقه السياسية والفكرية والإبداعية في سوريا، ليحضر التاريخ لا بوصفه بنية فوقية وغاية للخطاب الروائي، بقدر ما يحضر عبر علاقته العضوية بالقاع الاجتماعي وتحوّلاته المعلنة والمُضمرة.
ويعد فوّاز حدّاد صاحب تجربة سردية مميزة لاقت صدى كبيرًا لدى القراء والنقاد، لتصل روايته “المترجم الخائن” إلى القائمة القصيرة لبوكر العربية 2009، وتجد روايته “جنود الله” طريقها إلى الترجمة بالألمانية وتصدر تحت عنوان “سماء الله الدامية”. فيما رُشح للقائمة القصيرة لجائزة “فريدريش روكرت” الألمانية العام 2013 مع ثلاثة كتّاب سوريين آخرين هم سمر يزك وروزا ياسين حسن ونهاد سيريس، الذي حاز الجائزة.
ومنذ باكورة أعماله الروائية اختار صاحب “خطوط النار”، الحفر في التاريخ السياسي لسوريا، وجعله مجرد خلفية للمشهد الاجتماعي، راصدًا مشاهد من المعيش السوري ذات محامل سياسية وإجتماعية وثقافية، مسائلًا إياها أسئلة لا تكتفي بالظاهر من أحوالها وإنما تغوص إلى حقيقة أعماقها. ولعل هذا ما دفع صديقه الناقد والروائي السوري نبيل سليمان إلى القول: إن “روايات فوّاز حدّاد هي غالبًا من «العيار الثقيل»”.
يقول “حدّاد”: “ما أنا على يقين منه، أننا نحن أيضًا لدينا حياتنا وما يعصف ببلداننا، التخلف المستحكم، رياح الأصولية، والربيع الذي جاء متأخرًا، ثم انقلب إلى فصل متقلب، وفي غزو العراق شاهد قوي، وحاليًا هذه الاضطرابات التي لا تستقر على حال.
المنطقة العربية من أكثر المناطق عرضة للمؤثرات الداخلية والخارجية، وما ينجم عنها من متغيرات هزيلة، إن لم يكن تراجعات وطنية وقومية وإنسانية، تعقبها فترات ركود، هذا ما ندعوه بفترات سلام، لا تخلو من القمع والمصادرة. لذلك لا بد أن تنعكس هذه الأحوال على الرواية، وأية رواية غير بريئة منها، حتى بمحاولات تجنبها، ونادرًا ما يفلت الروائي منها، ما دام يعيشها”.
وتعالج رواية “المترجم الخائن” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، مسألة ثقافة السلطة وسلطة الثقافة وما ينجم عنها من إفساد للضمائر وترويج للغث وكسب للولاءات، بعد زمن من الصمت واعتماد الترميز والمواربة، وقد باشرت بمعنى ما في ذهابها إلى الهدف تمامًا.
وتعتبر روايته “السوريون الأعداء” الرواية السورية الأولى التي ترصد، في شكل بانورامي، حقبة سورية مديدة، تمتد بين لحظتين تاريخيتين فاصلتين في التاريخ السوري المعاصر “تحتلان مكانًا رمزيًا عاليًا في المظلومية السورية”.
-
المصدر :
- جدلية