مُجدَّداً، يطرق الروائيُّ السوري فوّاز حدّاد (1947)، في روايته “جمهورية الظلام”، الصادرة حديثاً عن “دار رياض الريّس” في بيروت، مسألةَ العلاقة بين المثقَّف والسُّلطة. لكنّ المسألة لا تحضر بوصفها عنواناً عامّاً؛ فالسُّلطة، هنا، هي الأجهزةُ الأمنية، والشخصيةُ الرئيسية شاعرٌ مُخبِرٌ يتسلّل إلى المشهد الأدبي، لكنّه يجد صعوبةً في تأدية نشاطاته الاستخباراتية بسبب عدم فهمه لكثير من المصطلحات التي يستخدمها الكُتّاب، فيجدُ نفسه في حيرة من أمره إن كانت تستحقّ التخبير أم لا؛ ذلك أنّه “كان حديث عهد بالأدب، فقد أصبح شاعراً على كبر”، حتى إنّه عندما سأل عن بعض تلك المصطلحات “أحالوه على عشرات الكتب، فنفر من الثقافة، فهُو لم يعمل في المخابرات ليعود إلى قاعات الدرس والمطالَعة”.
نحن في بلدٍ يحكمه نظامٌ شمولي، ويصل فيه الهوَس بالرقابة إلى تأسيس فرع أمني خاصّ بالأدب. سينفتح أمام “الشاعر سعدي” بابُ رزقٍ من حيث لا يحتسب؛ ففي خضمّ حيرته، تصلُه رسالةٌ من مجهولٍ سمّى نفسه “الغيور على الوطن”، يدُلّه فيها على قصّةٍ أدبية بعنوان “الفجر” لكاتب يُدعى أحمد حمد الحمّود، زاعماً أنّها، متخفّيةً بالترميز، تُحاول إيهان عزيمة الأمّة وتُحرّض على القيام بانقلاب عسكري. ومن خلال ذلك “تعبُر الرواية إلى عوالم تهيمن عليها كوميديا سوداء، تبسط ظلالها على الحرب والمجازر والأقبية والتشبيح، ومطابخ الشر الطليق في القصر الجمهوري والأجهزة الأمنية”، مثلما نقرأ على الغلاف.
في هذا اللقاء، يتحدّث فوّاز حدّاد لـ “العربي الجديد” عن عوالم روايته السادسة عشرة، والتي تأتي استمراراً لـ مشروع روائي يوثق لـ سورية تاريخاً ومجتمعاً وسياسة: “نحن ما زلنا في الحلقة أو الدائرة ذاتها، لكن من فرط ما تحتوي الحلقةُ على حلقات، والدائرةُ على دوائر، يتوجّب عليك، في كلّ مرّة، النظرُ إليها من جانب مختلف”.
■ في “جمهورية الظلام”، وكما يُفهَم من العنوان، تُواصِل تناوُل مواضيع وقضايا من التاريخ السوري المُعاصر، ومواكَبةَ ثورة السوريّين ضدّ ما تصفه بأنّه نظامٌ بلا أخلاق. كيف تُقدِّم الروايةَ الجديدة؟
إنّها عن هذا العالم الرهيب الذي يعيش السوريّون تحت وطأته، بكُلّ ما فيه من ظُلم وظلام؛ نظام تديرُه الأجهزة الأمنية، وتقبع في القمّة عائلةٌ مالكة. ولنتخيَّل، كيف يجري التحكُّم بأقدار البشر… إنّه القمع إلى حدّ الوحشية.
هذه قصّة ليس صغيرة، إنّها أكبر ممّا يمكن توقُّعُها، استمرّت ما يزيد عن نصف قرن، ولا تُختَصر بالعقد الأخير، وهي ليست منبتة الصلة عن المنطقة ولا العالم. هذا النظام لم يستمرّ بمعزل عمّا يدور حولنا. إنّه في قلبها وخضمّها. لنقُل إنّها قصّة استثنائية، لا يتلاعب بمصائرنا فحسب، وإنما يهتمّ بنا من حيث إنّنا أدوات لتكريس بقائه، وصناعة الموالاة المطلقة. والأغرب أنّه نظامٌ هشّ رغم أنه مُرعب، لولا تلك الصلات التي تربطه بأمثاله من الدول لما استطاع أن يبني إمبراطوريةً من الأكاذيب والضحايا. لذلك يجب أن نفهم أنّه أسّس لقاعدة ضخمة من الذين يدافعون عنه بضراوة، لأنّهم بالفعل يدافعون عن أنفسهم، وفي الوقت نفسه يعملون لحسابهم. إنّهم ليسوا مستخدَمين فقط، إنّهم على نمطه، يستمدّون تعامُلهم الهمجي من السماح لهم بممارسة ما شاءوا. إنّها خدماتٌ متبادَلة بين القمّة والسفح ضمن ترابُط وثيق.
السياسة في الرواية مشهدٌ مخيّمٌ على بلد تقلّبَت أحوالُه
هذا ما يتكشّف في ثنايا الرواية. وإذا كان هناك ما تنحو إليه الرواية، فهي قدرة الناس على كسر هذا الظلام. إنّهم يصنعون النقيض؛ النور ولو كان دامياً. هذه الرواية عنّا نحنُ السوريّين.
■ منذ “السوريّون الأعداء” (2014)، حضرَت الثورة السورية في رواياتك مِن زوايا وجوانب مختلفة. كيف عدت إلى موضوع الثورة في “جمهورية الظلام”؟
نحن ما زلنا في الحلقة أو الدائرة ذاتها، لكن من فرط ما تحتوي الحلقةُ على حلقات، والدائرةُ على دوائر، يتوجّب عليك، في كلّ مرّة، النظرُ إليها من جانب مختلف، وما أكثر ما يترتّب على الكاتب اختراقُه؛ سواء من موقع الإرادة في التغيير، أو الحرية، أو الدين، أو العدالة، أو الحب، أو الثقافة، أو الخيانة، أو الضمير، أو الموت، أو الجريمة، وذلك المنظر المؤلم في النزوح واللجوء، والترحيل من الأرض… إنّها عن كلّ شيء دونما استثناء، عن هذه الحياة، التي لا نُريد لها أن تمضي عبثاً، مثلما نريد لشهادة الشهداء ألّا تكون مجانية. ولا يجوز أن تغيب عن أذهاننا المجازر وحصار التجويع والتركيع، وباصات الترحيل.
إذا كانت الرواية عن الحياة، فهي ليست مخصَّصةً لشيء دون آخر، وإذا كانت عن البشر، فلماذا لا نهتمّ بما يكابدونه. هكذا الرواية حرية، ولا ينبغي تقييدها. وحده ما يجري على الأرض سيرسم نهاية الرواية، لكنّ ما يبدو أنّه انتهى، وما سيجري ليس إلّا البداية ثانيةً.
■ في كلمة الغلاف، لفتَتني كلماتٌ مثل “القصر الجمهوري” و”الأجهزة الأمنية”، فتساءلتُ: إلى أيّ مدى تقترب الرواية من أقبية النظام وكواليسه؟ وهل تَستند في ذلك إلى وقائع حقيقية أم متخيَّلة؟
ما سيتردّد في القصر الجمهوري والأجهزة الأمنية، عدا أنّها مطابخ الشرّ الطليق، تُفرِز المحقّق، المخبر، ضبّاط الفروع، المعتقل، السجن، المليشيات، الشبّيحة… وغيرها. إنّها بعضٌ من مفردات الأعمال الروائية التي تمتُّ بصلة إلى الفضاء السوري خلال نصف قرن. لا بُدّ من أن ترِد إحدى هذه الشخصيات أو المعالم في الرواية، لا يغصُّ الواقع بها فقط، بل تُؤثّر فيه. السوريّون عاشوا تحت وطأتها، يُطالعنا الخوف حتّى في قصص الحُبّ، عدم الأمان لا يخلو منها، مجرَّد مرور حبيبَين أمام حاجز أو مركز أمني، تُلاحقهما النظرات المريبة، أو فوهات البنادق.
رواياتي تستند إلى ما أدعوه محاولات الاقتراب من حقيقة الواقع، وما استخدامُ الخيال إلّا لاختراق الوقائع، فلا تكتفي بالسطح أو المظاهر. إنّ الهدف هو الوصول إلى الأعماق المُظلمة لهذه الأبنية الصمّاء.
■ أردتُ أيضاً أن أسألك عن كيفية مقاربتك لقضايا مثل: “المسألة الأخلاقية” و”الثقافة” و”توظيف التاريخ في التعذيب والقتل”؟
لا يمكن لأيّ محاولة للكشف عن آلية أيّ نظام إلّا التعرُّض لتلك الوجوه المتنوّعة والمختلفة التي يبدو بها، والتي يُخفيها. إنّها أشبه بالوجه والقفا، الظاهر والباطن. إن الكثير من المسائل الجوهرية تُحدِّد ماهيته، ونوعية تفكيره؛ فالمسألة الاخلاقية تحضُر من تلقائها، وليس بوسع الروائي تجاوزها، هي تطرح نفسها كمعضلة حقيقية. ماذا عن الأخلاق؟ أليس رجال الأجهزة الأمنية مسؤولين عن أمن المُواطن أم أنّهم مجرمون؟ هل الأخلاق مسألة ثانوية؟ نكتشف أنّ لها أهمّيةً قصوى، وإن اعتُبرت، بالنسبة إليهم، مسألةً لا وجود لها أو تافهة. والمثير للاحتقار أنّهم يستخدمونها ببراغماتية قذرة، يدّعونها ويتحلّلون منها. انظُر مثلاً حالياً في ظهورات مسؤولي الدولة من كبيرهم إلى صغيرهم دونما استثناء، تجد ما يلغون به من أخلاق، تُبرّر لهم حتى أشنع الجرائم. البشر بالنسبة إليهم ليسوا بشراً، وهذا ليستسهلوا قتلهم.
أكتب عن عصر، وأعرف أنّني لن أفيه حقّه مهما كتبت
أمّا الثقافة، فخدعة. لا مكان إلّا لثقافة الموالاة، وما يُميّز بعض المثقَّفين في هذا النظام، وهو من مآثر الوضع السوري، الادّعاء بأنّهم مع الحرية، في الوقت الذي يتبرّعون بالكذب جهراً، ويسوّغون القتل تحت بند التطرُّف، طبعاً الإسلامي. ما يُميّز هذه الثقافة هو ترسيخ الدكتاتورية، تحت زعم القضاء على الإرهاب، ولا بأس بتوظيف التاريخ لترسيخ الطائفية. هذا ما تتبرّع به الميليشيات المذهبية.
■ في حديث سابق إلى “العربي الجديد” عام 2018، أشرتَ إلى أنّ روايتَك المُقبلة ستكون خاتمة “المرحلة الثالثة من تجربتك الروائية؛ حيث تضع فيها نقطة الختام على رؤيتك للواقع السوري اجتماعياً وثقافياً وإنسانياً وسياسياً، في لحظة مفصلية دامت (حتى ذلك اليوم) ثماني سنوات. هذه المرحلةُ التي بدأَت مع “السوريّون الأعداء” (2014)، ثمّ “الشاعر وجامع الهوامش” (2017)، وستستمرُّ مع “تفسير اللاشيء” (2019)، و”يوم الحساب” (2021)، ثمّ “جمهورية الظلام” (2023). هل تفسير ذلك هو شعورك بأنّه لا يزال لديك ما تقوله روائياً عن الزمن السوري الراهن؟
ليس السبب حصولُ متغيّرات فرضَت كتابتَها، وإنّما الإدراك بأنّ هناك جوانب يجب التطرُّق إليها. وهذا لا يعني التوثيق أبداً – وإنْ كان الروائيُّ يوثّق بطريقته – وإنّما اتّساعَ المشهد الإنساني والسعي لمجاراته، أي إنّني لم أتوقّف عند حدّ، كما لم اشعر أنّني اكتفيت. هناك ما يجب التعبير عنه، فأنا أكتب عن عصر، وأعرف أنّني مهما كتبتُ عنه فلن أفيه حقَّه.
ما نكتبه محدود. لكن، في هذه المرحلة، اعتقدتُ أنّنا إذا نحن لم نكتبه على هذه الشاكلة الروائية الساخنة، فلن يُكتَب أبداً، خاصّةً أنّنا عايشناه، لذلك يتشارك في الكتابة عنه مئات الروائيّين، وسيأتي من بعدنا المئات ممّن سيكتبون عنه؛ فما حدث ليس عابراً… سيَظهر الكثير من دلالاته في ما بعد، لكن يجب ألّا نُهمل دلالاته الحاضرة، فقد تضيع.
ما زال هناك في الأفق روايةٌ عن عالَم مثقّفي النظام
حساباتي أخطأَت، الروايات فرضت نفسها. والأمر ليس أنّني أُخطّط لها، كما أنّها ليست سلسلةً أو مسلسلاً، ولا تخوض في ما بات يُدعى بالأزمة السورية. هذا شأن السياسة لا شأني؛ فالسياسة في الرواية مشهدٌ مخيّمٌ على بلد تقلّبَت أحوالُه، من احتجاجات، إلى مظاهرات سلمية، فثورة، فحرب أهلية، فحرب معلنة ضد الشعب، فحرب إقليمية، كان للإرهاب فيها نصيبٌ كبير لا يُستهان به، فحربٌ شاركَت بها دولٌ كبرى، ثمّ تَحوُّل سورية إلى ساحة قتال جزئية بين إيران وإسرائيل، من دون أن تتعارض مع خمسة احتلالات. هذا التصاعُد الرهيب كان له الفضل في بقاء النظام، أصبحت الأطراف كلُّها بحاجة إليه، لإبقاء الحرب مستمرّة. هذا كلُّه لا علاقة له برواياتي سوى أنّه المناخ الذي تجري فيه أحداث الرواية. الروائي يكتب عنّا نحن، أي البشر السيّئين والجيّدين، الأشرار والطيّبين… هذا ببسيط العبارة لَئلّا نُعقّد ما هو مُعقَّد، خاصّةً أنّه يضمّ بشراً عاديّين، ورجال النظام، ورجال مخابرات، ومثقّفين انتهازيّين، ومجرمين ولصوصاً… هذا ببسيط العبارة، اختصارٌ لأنواع من البشر قد لا تخطر على بال.
ما زال هناك في الأفق روايةٌ عن عالَم مثقّفي النظام؛ وهُم نوعٌ خاصّ من المثقَّفين تُفرزهم الدولة الشمولية الرثّة بالذات، فالدكتاتوريات الأيديولوجية تُفرز أمثال جدانوف وغوبلز، أمّا الرثّة التي تدّعي انحيازها إلى الشعب، فهي تقتل الناس تحت غطاء المقاومة والممانعة، كذلك مثقّفوها على نمطها يُتاجرون بالضحايا، ويدعون إلى قتل الشعب بادّعاء الإرهاب، أتقنوا اللعب على النظام والمعارضة في آن واحد. إنّهم جزءٌ من مشهدية النظام، الرواية عن مهاراتهم. وربّما في ما بعد، لا أدري بالضبط، هناك أفكارٌ كثيرة تستحوذ عليّ.
■ يقودني هذا الحديث إلى سؤال آخر: إذا كانت الرواية ما بعد القادمة قد استحوذت على أفكارك، وأردنا التحدُّث عنها، فكيف ستكون بتصوُّرك ملامح تلك الرواية وتلك المرحلة؟
ستكون في الدائرة السورية نفسها، عن السوريّين. إنّهم وحيدون أمام الهزيمة. الحقيقة سيّئة ومُرعبة، أفضل ما نفعله ألّا نخدع أنفسنا. إنّها الكتابة عمّا يعنيه هذا الحطام: حطام البشر والوطن، التاريخ والسياسة… وأيضاً الحُبّ والصداقة… كيف سيكون النظر إلى أنفسنا والعالَم؟ نحن أمام كارثة، هل بوسعنا الكلام عن المستقبل؟ إنّ مجرَّد الكتابة يعني عدم الاستسلام.
-
المصدر :
- العربي الجديد