كما ينوّه ماكس فايس، صدرت في العقد الأول من الألفية الجديدة روايات سورية تدور حبكتها بشكل أساسي حول موضوع الدسيسة والتآمر، اللتين تحيك خيوطهما أجهزة المخابرات ضد المواطن، لتحقيق أغراض وغايات وظيفية لممارسات النظام. يتعلّق الأمر بمحاولة جريئة لتمزيق حجاب الظلام والغموض الذي يلفّ الممارسة السياسية، وذلك للكشف عن سير آليات الدولة البوليسية القائمة على عمل الأجهزة الأمنية.
يؤكد عباس بيضون على انتشار وأهمية نصوص “روايات المخابرات” في الأدب العربي، وليس السوري فحسب، حيث يمكن لجهاز الأمن أو عنصر المخابرات الفرد أن يلعب دور البطل أو، على أيّ حال، أن يحتل مكانة حاسمة في نسيجها السردي. ففي الحالة السورية، يلاحظ بيضون أن العمل يأخذ خصائص الرواية البوليسية دون اللجوء إلى بنية وتقنيات وصيغ الرواية البوليسية التقليدية، مع التركيز بدلاً من ذلك على مواضيع مثل الاعتقال التعسفي والاحتجاز والتعذيب والاغتيال السياسي ومناخ الرعب الذي يغلّف الشخصيات.
في بعض الأحيان، يمكن أن تقدم الرواية نفسها كرواية إثارة “thriller“، حسب التعبير الأنغلوساكسوني، أو “ noir“، حسب التعبير الفرنسي، ولكنها، على عكس الروايات البوليسية ذات المنشأ الغربي، تحتوي على عناصر من النقد الاجتماعي والسياسي القاسي. لهذه الأسباب، يُعرّف بيضون هذه الأعمال على أنها “قصص شبه بوليسية”، غالباً ما يكون أبطالها شخصيات منفردة، متورطون في مؤامرة أو مكيدة لا تربطهم صلة بها، عاجزون وعُزّل، تكتسحهم، لسحقهم، عجلة مسننة تفوقهم حجما. في بعض الأحيان، يتم حلّ الحبكة بنهاية غير متوقعة تهدف إلى نقل رسالة ذات طبيعة أخلاقية أو الكشف عن مغزى غير مسبوق للتاريخ السوري المعاصر.
الواقعية، والإسهاب في الوصف، والاهتمام بالتاريخ السوري المعاصر، هي العناصر التي تجمع المؤلفين مثل فواز حداد، ونهاد سيريس، وخيري الذهبي. كما يلاحظ ستيفان ج. ماير حول الرواية السورية التجريبية ذات النطاق المحلي أو السوري، أن موضوع الخذلان والإحباط من الواقع السياسي للبلد يظهر جلياً في هذه الأعمال، بالإضافة إلى الإحجام عن أحداث الماضي، طالما واقع الحاضر لا يطاق.
يتنقّل الإنتاج الأدبي لفواز حداد، المولود في دمشق عام 1947، وهو باحث في القانون والتاريخ السوري المعاصر، بين التاريخ والواقعية والاهتمامات السياسية. تميزت بدايته الأدبية برواية تاريخية، “موزاييك دمشق 39″، عام 1991، وهو عمل يلاحظ فيه اهتمام المؤلف بالتفاصيل الوصفية الدقيقة لواقع دمشق. الواقعية والمشاعر السياسية يميّزان أيضا رواية “المترجم الخائن”، التي صدرت عام 2008 ووصلت إلى القائمة النهائية القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2009، المعروفة أيضاً بجائزة “بوكر”. يصف المؤلف نفسه هذا النص بأنه أول رواية عربية تتمحور حول موضوع الفساد الثقافي، ونقد المثقفين الذين يعملون في القطاع الثقافي في ظل نظام استبدادي.
يروي العمل قصة حامد سالم، مترجم الأعمال الأدبية من الإنجليزية إلى العربية، الذي ينقلب مصيره بسبب إحدى الترجمات: ترجمة رواية سودانية مكتوبة باللغة الإنجليزية، يقرر حامد تغيير النهاية بشكل تعسّفي، بحيث يجعل بطل الرواية يتخلّى عن صديقته الغربية ويعود إلى مسقط رأسه. ولكن الكتاب ينال جائزة أدبية، فتراجعه الصحافة العربية وتكتشف تلاعب المترجم بالنصّ. فلا يبقى خيار أمام الأخير سوى تغيير هويته باستمرار هرباً من ملاحقة الحكومة، منتحلاً أسماء مستعارة جديدة دائماً من أجل النجاة بجلده. تتحول الأسماء الوهمية والهويات المزيفة، بالنسبة إلى حامد، إلى أسباب إضافية للعذاب. يغلب الطابع السياسي على هذه الرواية، فنرى حداد يقدّم فيها تحليلاً واضحاً للعلاقات التي تربط المثقفين بالسلطة السياسية في سوريا المعاصرة. ما الذي دفع حامد إلى الإطاحة بنهاية العمل وتدمير مستقبله المهني، بل وتعريض حياته للخطر؟
تَبيّن أن ما قام به المترجم الخائن هو فعل تمرّد حقيقي ضد النظام وقواعد لعبته، عمل تخريبي غير مألوف ضد النظام السياسي الاستبدادي لبلده. وهكذا تصبح خيانة الترجمة للأصل مجازاً للتعبير عن استعداد الكاتب لانتقاد المجتمع الذي يعيش فيه. تتميز الرواية بنبرة من السخرية اللاذعة، بدءا من اختيار بطل الرواية فيما يتعلق بنوع شكل التمرّد الذي سينفّذه ضد النظام الدكتاتوري لبلده.
من أفضل الأمثلة على “الرواية المخابراتية” ذات البيئة السورية، هو عمل حداد التالي، “عزف منفرد على البيانو”، والذي يمكن اعتباره تحت أكثر من منظور رواية “إثارة” من أدب الخيال السياسي التي تقدم، في قراءة أولى، عناصر الرواية البوليسية فقط لنكتشف، ما إذا تمحّصنا النص جيداً، إنه عمل إدانة سياسي واجتماعي ابتداء من العنوان، حيث نجد كيف أن عازف البيانو الفرنسي يعزف وحده في الحفلة الموصوفة في الفصل الثامن والعشرين من الرواية، ذلك ما نراه في المثقف السوري إذ يعلن وينشر نظرياته وحيداً، دون جمهور يصفّق له أو يحثّه على الاستمرار. بطل الرواية وحيد مع بصيرته وحمولته الثقافية، يعزف سيمفونية لا يفهمها أحد، ولا يريد أحد أن يسمعها، أفكاره تنتمي إلى عالم بعيد جداً عن الواقع، مثل موسيقى عازف البيانو الفرنسي الكلاسيكية.
تحكي الرواية قصة فاتح القلج، مفكّر يساري، أرمل، موظف تنفيذي لدى قاعدة البيانات الوطنية، من أشد المؤيدين للعلمانية، الذي تعرّض في إحدى الليالي للهجوم والضرب في ردهة المبنى الذي يقطن فيه. يُنقل إلى المستشفى، وهناك يلتقي بسليم، مسؤول المخابرات الذي عينته الحكومة لمتابعة قضيته. زوبعة من الأحداث تجرّ البطل إلى المؤامرات السياسية والدسائس التي يتم حبكها على صعيد وطني ودولي لإنهاء المفاوضات الهادفة إلى المصالحة بين الحكومة والجماعات الإسلامية الأصولية. من بين الأصدقاء الذين حضروا لزيارة فاتح في المستشفى، ثمة شخص غريب يَدّعي أنه صديق طفولته، رفيقه في المدرسة الابتدائية، وقد جاء بعد قراءة خبر الهجوم في الصحف.
شيئاً فشيئاً، يركّز البطل على الزائر، الذي يتذكّر وجهه وليس اسمه، تماماً كما يتذكّر العبارة التي كان الصديق القديم يحبّ تكرارها في طفولتهما “أنا أعرف أشياء كثيرة”. عندما يلخّص صديق طفولته حياته له، يشكّ فاتح في أن زميله السابق في المدرسة متورّط في أنشطة بعض الجماعات الإسلامية. في سياق التحقيق، سليم، ضابط المخابرات، يتفهّم بشكل أفضل الأسباب التي دفعت الحكومة لتسليمه القضية. كان فاتح، رغم أنه مفيد جداً للنظام في محاربة الجماعات الإسلامية بسبب قناعاته العلمانية، قد ابتعد عن معتقداته العلمانية عندما مرضت زوجته وتوفّيت إثر ذلك. وبالفعل، لقد وصل الأمر بالمفكّر المعروف – في تلك الفترة – إلى حدّ طلب العون من الله لخلاص زوجته، مما أثار ريبة النظام.
بعد عودته إلى العمل، يستفسر فاتح بدوره عن سليم، ويكتشف علاقة الضابط مع أجهزة المخابرات في جميع أنحاء العالم. وفي الوقت نفسه، فإن فكرة أن فاتح هو في الواقع إسلامي يختبئ وراء واجهة علمانية تتجذر أكثر فأكثر في أعماق سليم، حيث يشكّ في أنه يرغب في الارتقاء إلى مرتبة شهيد. فاتح، رغم تحذير الأجهزة الأمنية من أن حياته في خطر، يشارك في مؤتمر بمداخلة بعنوان “مدرسة بلا دين ولا تمييز بين الجنسين”، كما أنشأت فرنسا الثورية مدرسة علمانية في القرن التاسع عشر بحكم المصالحة الوطنية، لتساهم في تكوين المواطنة دون تمييز في العقيدة أو الجنس، وهكذا لوحظ في سوريا أيضاً التأثير الإيجابي نفسه للمدرسة العلمانية على المجتمع. في هذه الأثناء، يتابع فاتح، من الضروري المثابرة في نفس الاتجاه، لمحاربة الجماعات الإسلامية التي تنشر أفكاراً وخرافات رجعية، وتحيل المرأة إلى دور هامشي.
بعد المؤتمر، فاتح وسليم يتناقشان حول العلمانية، ويتفقان على صدّ الأصولية لكنهما يتصادمان حول طرق محاربتها: فبينما يؤمن الأول بالحوار، يرى الثاني ضرورة اللجوء إلى القوة. بهذه المناسبة، يخبر سالم فاتح عن إبادة عائلته التي حدثت في الماضي على يد الإسلاميين. الرجلان يتقابلان مجدداً في مطعم شهير بدمشق. ومقتنعاً أخيراً بأن فاتح هو شخص نزيه، يكشف له سليم أن الحكومة تجري سراً مرحلة جديدة من المحادثات من أجل المصالحة الوطنية وأنه لا يوجد ما يعوق المفاوضات. يجب أن يتعاون فاتح أيضاً مع النظام ويتجنب الاشتراك في مؤتمرات جديدة حتى لا يخلق ذرائع للنقاش أو مجالاً للاضطرابات. بعد مغادرة سليم، يلاحظ فاتح وجود صديقه القديم في المدرسة في صالة المطعم. يكشف هذا الأخير لفاتح أن المفاوضات بين الحكومة والإسلاميين ما هي إلا مهزلة: فالحكومة في الحقيقة لا تريد أيّ مصالحة. مرتبكاً ومضطرباً، يذهب المفكّر إلى عشيقته هيفاء بحثاً عن عزاء لنفسه. وفي الوقت ذاته، يعرض سليم لفاتح حماية منظمة دولية لمكافحة الإرهاب تشارك فيها جميع دول العالم. في الواقع، لم يتطرق المفكّر نفسه بمؤتمره كثيراً لأعمال الجماعات الإسلامية، بل لأفراد منعزلين قد يشعرون بتكليف من الله بقتله، من أجل الحصول، في المقابل، على الشهادة المنشودة. يشعر بطل الرواية بالملاحقة من قبل رجل يبدو مريباً، فيقبل الحماية الدولية.
لا يشعر فاتح بالحماية على الإطلاق، وخلال حفل البيانو، حيث خلال ذلك، استدعاه سالم للصعود إلى منصة المسرح، يُظهر له كل رعبه، لكن سالم يطمئنه قائلاً إنه أحبط عدة محاولات لاغتياله. في غضون ذلك، تستمر محادثات المصالحة، ولكن يبزغ أمر جديد: الدول الغربية لا تعتبر محادثات المصالحة ملائمة. يتزايد خوف فاتح، الذي يدرك أن مصيره مرتبط بتقدم المفاوضات. وبشكل غير متوقع، يتلقى زيارة من صديق طفولته في المنزل الذي يكشف له أن شخصه في لبّ المؤامرة: ستقتله المخابرات، وسيكون اغتياله ذريعة للحكومة لوقف مفاوضات المصالحة الوطنية. الخطة جاهزة: سوف يطعنه أحد عناصر الأمن في الحشد، ويقضي عليه آخر بطلقة في الرأس، والنظام سيردّ على جريمة القتل بقبضة من حديد ضد الإسلاميين. يعرض الصديق مساعدته على فاتح، لكن الأخير يرفض، لأنه لم يعد يثق إلّا بنفسه فقط. مقتنعاً بأن مصيره قد حُدّد الآن، يذهب المفكّر إلى المكتب ليطلب فترة إجازة، لكن لدى مغادرته يلتقي بسليم الذي كان ينتظره ليخبره أن المفاوضات على وشك الانتهاء باتفاق، وليس هناك حاجة بعد الآن للحماية، وأن الوقت ليس مناسباً لقضاء العطلات وذلك لتجنب إثارة الشكوك. يلجأ فاتح لتلميذه وصديقه حسين، لينفث غضبه وينكر أثناء ذلك النظريات التي آمن بها طوال حياته، ويدعو تلميذه إلى عدم ارتكاب خطأ الإيمان الأعمى بقضية ما، ثم يشكو يأسه لهيفاء، ولا يرى أمامه سوى الموت.
بعد مرور بعض الوقت، بينما يزدهر الربيع في دمشق، يبدأ فاتح بالشعور بالاطمئنان. ذات يوم، يلمح من نافذة مكتبه صديق طفولته جالساً على مقعد في الحديقة أمام المبنى. ينزل الرجل ليحييه، ويرحب به صديقه بسرور، لكنه يكشف له أن اغتياله مؤجل فحسب: النظام سيقتله عندما يكون قتله نافعاً لخططه. فاتح اليائس لم يعد يعرف ماذا يصدّق، لكن صديقه ينصحه أن يوكل أمره لله، وفجأة يسمع صوت طلقة نارية، فيقع الصديق على الأرض. يستدير فاتح فيرى رجلاً – متأبطاً بندقية – يطلّ من نافذة مكتبه.
يفرد فاتح ذراعيه، مستعداً للنهاية، رغم أنه يشعر بالأسف لقتل صديقه بالخطأ. لكن بشكل غير متوقع، تصل سيارة سوداء ويخرج منها سليم، ويدعوه بصريح العبارة العودة إلى المكتب، لأن الهدف قد تحقق. تُنقل الجثة دون أن يلاحظ أحد أيّ شيء، وتنتهي الرواية بتأمل فاتح في عبثية الموقف: قُتل صديقه على وجه التحديد لأنه كان يعرف كل شيء، بينما يدرك هو أن المعرفة لا فائدة منها، وسيكون هذا الوعي هو الذي سيقوده للخروج من الكابوس.
لوحة: شفيق رضوان
هذه الرواية، التي تقدّم نفسها على أنها قصة مثيرة مليئة بالتوتر والمفاجآت، تتميز بنهاية مباغتة، لها عناصر تميزها بوضوح عن رواية الجريمة التقليدية، بادئ ذي بدء، واقعية التوصيف، التي تم إبرازها في العمل السابق، ثم الغوص بعمق في سيكولوجيا الشخصيات، لاسيما شخصية فاتح، بطل الرواية، وندّه سليم. فاتح يشبه إلى حدٍ ما بطل رواية “المُترجم الخائن”، إنه متحصّن في حبّ الذات، يعيش تحت ناقوس زجاجي، مغلقاً في برجه العاجي كمثقف، وفي عالمه المنسوج من نظريات فلسفية مجردة، بعيداً عن الحياة الواقعية. إنه رجل ممتلئ بذاته، يجعل من حبّه للعلمانية درعاً يحمي به نفسه من العالم، ويظهر كشخصية متناقضة للغاية. فأثناء مرض زوجته لم يتردّد في طلب نعمة الشفاء من الله، ثم العودة إلى محاربة الدين بكل أشكاله. بمرور الوقت، تحولت أفكاره الثورية إلى امتثالية رمادية. مدافع عن قيم العلمانية والعلم، العدو اللدود للظلامية والخرافات، منحاز ضد الإسلام الأكثر تعصباً وتخلفاً، يتخلّى تدريجياً عن حماسه ليلجأ إلى الامتثالية في أحلك صورها.
لكن في التحليل النفسي للشخصية، يشق النقد السياسي والاجتماعي طريقه على نحو ملحوظ: التغيير التدريجي لفاتح، وارتكاسه باستمرار نحو مواقف رجعية وامتثالية، وفقدانه للحماس والشغف السياسي، ليست مجرد تطورات ذات طابع إشكالي ومتناقض لكنها تندّد بممارسات النظام الاستبدادي وأثرها على معنويات المواطن، في مجتمع دمّره نظام يعيش على العنف.
فاتح ليس مجرّد شخص مصاب بجنون العظمة ومهووساً بمخاوف سخيفة، إنه شخص تحطمت يقينياته بسبب التجربة المدمّرة للاتصال بعالم الأجهزة السرية، من خلال إدراكه للعيش في بلد يمكن أن يأتي فيه الموت فجأة من أيّ مكان، وتيقنه من عدم القدرة على تمييز الصديق عن العدو، الذي يريد حمايته ممّن يريدون اغتياله ثم استخدام القتل لأغراض سياسية.
أزمة فاتح تستنفد في النهاية المريرة، عندما يدرك بطل الرواية، بعد حياة كاملة قضاها في محاولة السعي وراء المعرفة، أن هذه الأخيرة لا جدوى منها عندما يعيش المرء في ظلّ نظام وحشي، حيث الجهل ينقذ المواطن ومعرفة الواقع تحكم عليه بالموت. إن نور المعرفة، في الواقع، ليس سوى وهج خافت في ظلمة الوجود البشري. ولا يسع البطل إلا أن يتوصل إلى نتيجة لامبالية ساخرة مفادها أنه لا يوجد فرق بين الحقيقة والكذب، بين الخير والشر، متقبّلاً فكرة عدم جدوى النزاعات ومتعلّماً الثقة بنفسه فقط.
إن ندّ فاتح في الرواية هو سليم، “الشرّير”، حتى لو لم تكن جميع الشخصيات في الواقع سوى بيادق في لعبة أكبر بكثير منهم. خلال طفولته، انقلبت حياة سليم رأساً على عقب بعد إبادة أفراد عائلته، الذين قُتلوا أثناء تمرد الجماعات الإسلامية في مدينته (ربما في إشارة إلى مدينة حماه) وأقسم الثأر من الإسلاميين.
خلال التحقيقات التي دفعته لمعرفة المزيد عن قضية المفكّر الذي تعرّض للاعتداء، تؤثر قصته الشخصية على كل قرار. إن التعاطف والتفاهم مع فاتح دائماً ما يسكتهما الرغبة في الانتقام: لا رحمة ولا مكان للمصالحة، والطريقة الوحيدة القابلة للتطبيق هي القضاء التام على ظاهرة الأصولية الإسلامية، ويتوجب تحقيقها بأيّ وسيلة قانونية وغير قانونية. إن قتل صديق فاتح، وليس قتل المفكّر، هو هدف سليم: بمجرد مقتل الرجل المرتبط بالإسلاميين بشكل غامض، يمكن اعتبار مهمته قد أنجزت.
حتى سليم، أكثر من فاتح، شخصية تعكس كل وحشية الدكتاتورية، روح أفسدها نظام جعل القتل السياسي ممارسة يومية.
أكثر دقة، وأكثر غموضاً، تظل شخصية صديق الطفولة، التي تركها المؤلف عمداً دون اسم. في الواقع، يكافح فاتح، طوال مسار الرواية، في محاولة لتذكّر اسم زميله القديم، دون أن يتمكن من ذلك، ولا حتى في اللحظة التي تحدث فيها المأساة النهائية.
يتضح شغف المؤلف بالتاريخ، في هذه الحالة ذاك العراقي، في رواية أخرى له، “جند الله”، التي صدرت عام 2010، وتم اختيارها من بين أفضل روايات 2011 من قبل جائزة بوكر العربية، حيث يتناول المؤلف فيها الموضوع الشائك لحرب العراق عام 2003.
تتميز الرواية بواقعية قوية، وتحكي قصة مثقف سوري رحل إلى العراق، والصراع في أوْجِهِ، بحثاً عن ابنه المقاتل. بطل الرواية، راوٍ بلا اسم، يُنقل من بغداد إلى دمشق، جريحاً وبلا ذاكرة.
يتكوّن الإطار السردي للنص من جهود البطل لاستعادة الذاكرة وتذكّر ما حدث. لكن إذا كانت الشخصية غير مستعدة للتذكّر، فإن أجهزة الأمن السورية والأميركية حريصة للغاية على سماع قصته. في الجزء الأول من الرواية، يُساعد البطل، في جهوده لاستعادة ذكريات من بئر النسيان، صديق الطفولة حسن، عميل المخابرات السورية. يتتبع الرجلان معاً ماضٍيا متشابكا من الدراسة والحماسة السياسية، التي اتسمت بخيبة الأمل في الستينات، عندما اتخذ الصديقان مساراً مختلفاً: أصبح حسن عضواً في المخابرات السورية بينما أصبح بطل الرواية باحثاً في شؤون الحركات السياسية الإسلامية. عندما كشف له حسن عن انتماء ابنه إلى جماعة محسوبة على القاعدة على وشك الانضمام إلى المقاومة العراقية، يقرر بطل الرواية الذهاب إلى العراق لإعادة ابنه.
وقد دعمه في العملية عميل أميركي الذي قام، مقابل الحصول على معلومات عن الإرهابيين، بضمان سلامة ابنه. لدى وصوله إلى العراق، وهو على وشك الاتصال بالشاب، يتم اختطافه من قبل مجموعة من رجال الميليشيات. بعد علمه باختفاء والده، يسعى الابن لإطلاق سراحه. لكن اللقاء بين الأب والابن ينتهي بالفشل، إذ يرفض الشاب الذي أصبح أميراً جهادياً وقاتلاً لا يرحم العودة إلى سوريا مع والده. هذا الأخير، الذي أصيب بخيبة أمل وحزن بسبب فشله، غير قادر على إنقاذ ابنه، كان سيقرر عمداً أن يفقد ذاكرته.
يتميز العمل بتوصيفات مستفيضة ودقيقة: مستشفيات ومشارح بغداد، الميليشيات المتخصصة في عمليات الخطف، مشاهد القتال، كل جانب ممثل بواقعية صادمة وتفاصيل غزيرة. يجمع المؤلف بين الواقعية القصوى والدراسة النفسية للعديد من الشخصيات، ويصوّر الأزمة التي تكدّر الضمائر التي لم تعد تتعرّف على نفسها في حقيقة واحدة.
اليقين الوحيد هو ذاكرة – ضمير الراوي – ضمير غير قادر على تحمّل الواقع القاسي، ووضع نفسي مؤلم أكثر لأن الهزيمة الجديدة تضاف إلى خذلان الماضي، عندما تخلّى بطل الرواية عن السياسة في الستينات، بخيبة أمل وبمرارة، ليكرّس نفسه لحياة سلمية كباحث، لا يبارحها إلا لحلّ مسألة ذات طابع شخصي وعائلي.
كما أن هذه الرواية المليئة بالتوتر والكثافة السردية يمكن تعريفها على أنها رواية غير تقليدية للعناصر التي تحتويها، للحبكة المفصلية، لتعريف سيكولوجية الشخصيات، وللثراء الوصفي. كما أن المشاركة الواسعة لأجهزة المخابرات تجعل هذا النص “رواية ـ مخابرات”.
الدراسة النفسية العميقة لشخصية بطل الرواية لافتة للنظر، مثقف علماني يتأمل هزائم جيله وتراجع المثل العليا التقدمية للشباب، المُثل التي فقدت كل إمكاناتها الثورية، وحلّت محلها الآن النظريات الإسلامية التي تهدف إلى تغيير العالم بالعنف، لجعله “أرض الله”، مع الوعد بنعيم الفردوس، حيث يحصل المرء فيه على كل ما فاته خلال هذه الحياة.
لا يمكن لبطل الرواية أن يقبل استخدام العنف، ولا الذي دعا إليه ابنه، ولا ذلك الذي يمارسه الأميركيون في العراق. ثمة عوامل مشتركة بين بطل الرواية والشخصية الرئيسية في رواية “عزف منفرد على البيانو”: كلاهما مثقفان في منتصف العمر، ومساندان مقتنعان للعلمانية وللمثل العليا التقدمية، وكلاهما عانى من خيبة الأمل السياسية، وفقدا كل الحماس، متراجعين نحو بعدهم الخاص.
تُذكّر فكرة حداد في الحرب، في بعض النواحي، بفكرة إرنست همنغواي في “وداعاً أيها السلاح”: الحرب هي المكان المناسب للأحداث المسرودة، ولكنها أيضاً حافز للتفكير للتساؤل كيف ولماذا فقد الإنسان إنسانيته. كما هو الحال في رواية همنغواي، يرسم حداد أيضاً في “جند الله” “جيلاً ضائعاً” فقد الإيمان بالقيم التقليدية مثل القومية والعمل والحرية والديمقراطية ليتراجع نحو العدمية التي اقترحتها ونشرتها الجهادية. الصراع بين الأجيال، وهشاشة الحياة، وإدانة العنف هي الموضوعات السائدة في العمل، والتي يمكن قراءتها أيضاً على أنها رواية تحمل بصمات روايات المجازفة والجاسوسية.
-
المصدر :
- مجلة الجديد