“الأوضاعُ المتغيّرة أدّتْ بهم إلى اكتشاف ما كانوا يجهلُونه عن أنفسهم، فعرَفُوا أنهم طائفيُّون ماكرون، وعلمانيُّون موتُورون، وأيضاً إسلاميُّون وسطيُّون أو مُتأسلمون دمويُّون. ما يفرّقُ بينهم أكثرُ مما يجمعهم”. هكذا يصفُ فوّاز حدّاد أحوالَ المثقّفين السوريين بعد ثماني سنواتٍ من الحرب، وذلك في روايته الأخيرة “تفسيرُ اللاشيء”.
يقدّم الكاتب فوّاز حدّاد في هذه الرواية (رياض الريّس، 2020) التي تدورُ أحداثها في دمشق عام 2019؛ أربعة نماذج من المثقفين السوريين، ويُشرّح بأسلوبٍ سلسٍ ومتقن، وعمقٍ نفسيّ واجتماعي؛ كلَّ نموذج منهم، كما لو أنه يعرّيه من ثيابه كاملة. والمثقفون الذين يتحدّث عنهم يشكّلون مجموعة تعرف بعضها بعضاً، وتجتمع كل أسبوع في بيت بطل الرواية “صاروف” وزوجته “سهير”، وهم يشبهون كثيراً أشخاصاً نعرفهم حقّ المعرفة.
النموذج الأول من المثقفين هو “المثقف الفصامي”، ويمثله الأستاذ الجامعي “صاروف”، وهو رجلٌ يعيش في عالم الـمُثُل منفصلاً عن الواقع، ويغضُّ النظرَ عن الحرب الدائرة منذ ثماني سنوات وكأنها غير موجودة. وعندما يتطرّقُ إليها؛ يقول إنها قد “كشفتْ عن العفن المحتقن”، دون أن يحدّد ماذا يقصد بهذا العفن، ودون أن يحمّل النظام أيَّ مسؤولية عمّا يجري. وبعدما انتهت الثورة السلمية وصارتْ مسلّحة ومُتأسْلِمة، صار يدّعي أنه كان مع الثورة في مراحلها السلمية الأولى.
“صاروف” هذا يؤمن بنظرية نهاية التاريخ، وأن التاريخ يسيرُ نحو الأمام والأفضل دائماً، وحتى إنّ مفهومه عن الحريّة مفهومٌ نظريّ خياليّ لا يمتّ إلى الواقع بصلة. هذه الشخصية الفصامية المتعالية التي تعيش في عالم الـمُثُل، تهتـزُّ وتنكسرُ وتتهاوى عند أبسطِ المواجهات مع الواقع، كمثلِ رؤيته لمشهد عنفٍ تشبيحيّ في الشارع، وكذلك عندما تقرّر زوجته “سهير” الانفصال عنه. وحينذاك؛ يدخل في حالة متطورة من الفصام المترافق مع الهذَيان والمدعَّم بجنون الارتياب، فيختلق سيناريوهاتٍ عجيبةً غريبة لتفسير الأسباب التي دفعتْ زوجته لطلب الطلاق، بينما يكون السببُ الحقيقي بسيطاً ولا يحتاج إلى عبقرية، وهو لأنه عقيمٌ بينما تحلُم زوجته بإنجاب ولد.
إنّ هذا النموذج من المثقفين يشبه النظام من حيث إيمانه بنظرية المؤامرة الخفيّة المحاكة ضدّه، ومن حيث التناقض بين أقواله وأفعاله، وعدم قدرته على تفسير أبسط الظواهر والتعامل معها على قدّها. إنه مثقف عقيم بيولوجياً وفكرياً واجتماعياً، فهو يتحاشى الاقترابَ مما يجري في بلاده، لقناعته بضرورة بقاء الفنّ للفنّ، والفكر للفكر، والجنس للجنس أيضاً، دون محاولة إنجاب أيّ ثمرة جديدة.
النموذج الثاني من المثقفين هو “المثقف المفشكل”، ويمثّله الفنّان التشكيلي “ماهر”، وهو يشبه بعض المثقفين الذين نعرفهم، فهو رسّام موهوب لا يحبُّ أن يدرس الفنّ أو يتعلّم أصوله أو يشتغل على تطوير نفسه، لقناعته أنّ موهبته الاستثنائية كفيلةٌ بأنْ تحقّق له النجاح والعالمية. لقد فشلَ في امتحان القبول لكلية الفنون الجميلة، كما فشل في دراسته في الخارج، فعاش متسكّعاً على الأرصفة، ثم أقام علاقاتٍ عاطفية مع نساء عجائز، مقابل الحصول منهنّ على بعض المال، عن طريق إثارة شفقتهنّ أو النَّصب عليهنّ. ومن هنا ازداد إعجابه بالأشكال “المفشكلة”، فابتكرَ مدرسته الفنية التي تمثّل “حداثة المرحلة النهائيّة”، وتتجاوز المدارس التكعيبية والسُريالية والدادائية التي يعتبرها قديمة وتقليدية، ألا وهي مدرسة “الفنّ المفشكل”. وكما يقول الـمَثَل: “من شبَّ على شيءٍ شابَ عليه”، يتزوّج “ماهر” من امرأة نشيطة وصاحبة مشروع خاص، ويعيش على حسابها وعالةً عليها، فبينما تخرج هي كلّ صباح لكي تعمل؛ يظلُّ هو نائماً بانتظار الإلهام الفني.
والفنّان “ماهر” لا يهمه كل ما يجري في سوريا، ولا تعني له الثورة والحرب أكثرَ من تدهور الليرة والغلاء وتقنين الكهرباء. ومعَ ذلك فقد استلهم من صُور “سيزر” للمعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب؛ فكرة إقامة معرض فني للأجساد المعذَّبة والمقطّعة والـمُمَثَّل بها، وكان يقول لزوار المعرض من جماعة النظام؛ إنّ هذه اللوحات تمثل جرائم العصابات الإرهابية. بينما يقول للزوار الذين يعرف مواقفهم المعارضة؛ إنّ اللوحات تمثّل التعذيب في معتقلات النظام.
النموذج الثالث هو “المنظّر الفذّ” ويمثّله “سالم”، وهو المفكّر المتشائم الذي كان يرى هزيمة الثورة منذ بدايتها، فيقول: “ما كان لبدايةٍ كهذه إلا أنْ تؤدي إلى ما انتهينا إليه”، وخلاصةُ رأيه لا تزيد عن “الرأي العلماني” القائل: “ما دام الثورة تأسلمت، فقد حدّدت شرط موتها”. وهو حكيمٌ متنبّئ، مغرورٌ متعالٍ، يفتخر بأنه متفرّد عن “القطيع الذي يجعرُ بالحرية والكرامة وبطلب النجدة من الله والأوروبيين والأمريكان والمجتمع الدولي”. وقد عرفَ “سالم” عن طريق ضابطٍ أمني كبير أنّ النظام غيرُ مهتمّ بفتح جبهة مع المثقفين في الداخل، لكنه سيقتلُ كلَّ شابٍ يتظاهرُ ضدّه. ولذلك لم يعلن “سالم” تأييده الصريح للنظام، بل حافظ على مسافةٍ انتقادية منه، تتناسب مع ماضيه اليساري. ويبدو أن هذا النموذج من المثقفين يفرح كلما ازدادت جرائمُ النظام ومجازره، لأنها تحقق له نبوءته عن فشل الثورة، ثورة الرعاع و”المتديّنين الأكثر غباءً”.
النموذج الرابع هو “المتفائل الساذج”، هو نقيضُ النموذج السابق وتمثّله “سهير”، و”سهير” هي حلقة الربط بين الشخصيات الثلاثة المذكورة مع الراوي بضمير المتكلّم. فهي زوجة المثقّف الفصامي “صاروف” ثم طليقته، ومشروع زوجة لـ “ماهر” الرسّام “المفشكل”، ثم مشروع زوجة لـلمنظّر الفذّ “سالم”، ثم حبيبة راوي الرواية. و”سهير” الموظفة في وزارة الثقافة، كانت تعتقد أن الثورة منتصرة لا محالة، وخلال بضعة أشهر، وأن الشعب إذا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر، لكنّ الثورة دخلتْ في نفقٍ مظلم و”باتت هزيمتُها تحصيل حاصل”. وهكذا انتقلت “سهير” من الهمّ العامّ إلى همّها الشخصيّ، وصارت غايتها الوحيدة هي الحصول على زوج من أجل أن تنجب منه ولداً.
وهنالك أيضاً الشخص الذي يروي الرواية بضمير المتكلم، والذي لم أصنّفه ضمن نموذج معيّن، لحياده في وصف الشخصيات والتعقيب على تصرفاتها من جهة، ولأنه كان الشيء الوحيد وسط كل هذا اللاشيء، أي وسط جدالاتِ المثقفين العقيمة، وانقساماتهم بين موالاة ومعارضة، وإسلاميين وعلمانيين. وهو مَنْ سوف يمسك بيَد “سهير” التائهة، ويسير معها من عالم الخراب والدمار والموت العبثيّ… إلى ربيع الحبّ.
وفي النهاية أشيرُ إلى أن “تفسير اللاشيء” ليست روايةً في هجاء المثقفين، فهي لا تقسّمهم إلى ملائكة وشياطين، ولا تصنّفهم ضمن أبيض أو أسود. بل هي تغوص في أعماق كلّ شخصيّة منهم وتُظهر تناقضاتها، وتُبيّن تدرّجاتها الرمادية الواسعة.