تُجري مراكز البحث استطلاعات رأي يوميّاً، داخل “إسرائيل” وأميركا وأوروبا، حول الحرب في غزّة، ولا غرابة في أنّها تُظهر انقسامات حادّة، خصوصاً في “إسرائيل”، حول إنهاء الحرب، ووقف إطلاق النار، وصفقة تبادُل الأسرى، لا تستثني شيئاً ممّا يدور على الأرض، كذلك السياسة والاقتصاد، وما تُثيره من توقّعات وآمال، وغالباً النسب بين صعود وهبوط، بينما تمضي الحرب دون أن تنعكس نتائج الاستطلاعات عليها، فالحكومات جميعها لا تتأثر بها، ولا تسترشد بها، فلا تزيد عن ثرثرة في وقت مستقطع، لمجرّد قول أشياء، والتعليق العابر عليها، طالما لا يُؤخذ بها، وإن كانت ترصد توجّهات الرأي العامّ.

بالنسبة إلينا، لا يعنينا منها بشكل جادّ سوى أنّ ما يزيد عن ثُلثي الإسرائيليّين يؤيّدون استمرار الحرب حتى القضاء على حركة “حماس”، ولو في ذلك القضاء على فلسطينيّي غزّة، وأيضاً الفلسطينيّين جميعاً. هذا هو الواقع، ليس حالياً بسبب “حماس” وغزّة، فالحلم الصهيوني قديم، عبّر عنه المؤسّسون القُدامى من قادة “إسرائيل”، فبِن غوريون قالها مبكّراً في عام 1937 قبل قيام “إسرائيل” بنحو عشر سنوات: “يتوجّب أن نستبدل العرب، ونحلّ محلهم”. يستبدلهم بماذا؟ بالقادمين من مختلف بلدان العالم.

كذلك عبّر عنه الجُدد من الزعران، مثل بتسلئيل سموتريتش في أواخر العام الماضي، ويبدو أنّه كان تعقيباً على التصريح السابق، مخاطباً الفلسطينيّين: “أنتم هُنا بالخطأ لأنّ بن غوريون لم يُكمل المهمّة ويطردكم نهائياً في سنة 1948″؛ فالمُضمر الدائم والمُعلن كان التخلّص من الفلسطينيّين بشتّى الوسائل، بقتلهم وتشريدهم، والمهمّة تقع على عاتق الجيش “الأكثر أخلاقية” في العالَم. أمّا عن الأسلوب فعبّر عنه المحرّض التسعيني عزرا ياشين في العام نفسه: “امسحوهم عن وجه الأرض، هُم وعائلاتهم وأطفالهم. لا ينبغي السماح لهؤلاء الحيوانات بالعيش”.

هناك فصول ستتبع ولن تتوقّف المقاومة، وهو الأمر الطبيعي

إذن، لم تأت عملية “طوفان الأقصى” من فراغ، ولا أحبطت حلّاً، أو وعداً بحلّ. هذا لنكون واقعيّين. الأمر الجيّد أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى المربّع الأوّل، لئلّا تضيع في الأخذ والرد، وكواليس متاهات “أوسلو” والتطبيع، والاتفاقات التي عُقدت، والمساومات والتنازلات كلّها لم تُفض إلى تسويات، وإنما إلى مماطَلات دونما انتهاء، وقضم للأراضي، وانتهاز لفُرص تتزايد، يشارك فيها العرب بِصمتهم ولامبالاتهم.

هذه التراجيديا يقوم على إدارتها، طوال عقود مضت، الراعي الأميركي “غير المنحاز”، بدعم من أوروبا “المحايدة”، هذا ما يجب أن نعتقده كي تجري تصفية فلسطين بتسليمها إلى الإسرائيليّين، ما يزيح عنهم أعباء تبكيت الضمير، يكفيهم الهولوكوست. إذا كان ثمّة مِن هولوكوست فلسطيني، فيجب أن يتمّ بلا شوشرة. فمثلاً عندما ترتكب “إسرائيل” مجزرة، يوكل الأميركان إلى الحكومة الإسرائيلية البتّ فيها، ومن ثمّ يُوكلون إلى الجيش الإسرائيلي التحقيق فيها، فهو الذي ارتكبها والأَولى بالتحقيق فيها. فلنتصوّر عدد المجازر والاعتقالات والنهب الدائم للأراضي، وأحكام البراءة، عندما يكون المجرمون هُم القضاة في جرائم ارتكبوها، ما دام القتلة أنفسهم يمثّلون القانون. شيء لا يشبه، بل هو على التأكيد مهزلة سوداء، لا تُخفى على عالم اعتصم بالصمت المبهم.

لا يصعب إحصاء هذه الحوادث على الرغم من كثرتها، فالذاكرة تحتفظ بها، كما أنّ المُتضرّرين والضحايا، والخيام والقبور والدمار تشهد، ولو أنّ الحكومات والإعلام وأجهزة المخابرات تتستّر عليها، وتتبنّى الرواية الإسرائيلية، التي لم تعُد سارية، بعدما عادت القضية الفلسطينية إلى المربّع الأول، وهو ما فهمه طلّاب الجامعات الأميركية والأوروبية، كموقف إنساني أخلاقي، فالتاريخ يقول إنّ هناك نكبة أدّت إلى كارثة، تجلّت بطرد جماعي وتطهير عِرقي، واحتلال بلد واستيطانه، وفقدان مئات الآلاف ممتلكاتهم وتشريدهم من ديارهم إلى المخيّمات، واستخدام القوّة لمنعهم من العودة.

هذا الوضع حافَظ على وجوده لخمسة وسبعين عاماً. بالنظر إلى المستقبل، ينحو الجشع الإسرائيلي إلى تأبيده بطرد ما تبقّى من الفلسطينيّين في الضفّة وقطاع غزّة. لذلك لم تتوقّف المقاومة، ولم يكُن “طوفان الأقصى” إلّا أحد فصولها، هناك فصول ستتبع ولن تتوقّف المقاومة، وهو الأمر الطبيعي، إلا في حال تحرّك العالَم وتصرّف بعدالة إزاء مشكلة يعرفها حقّ المعرفة.

لن نُغالط ونتفاءل، ثمّة ما هو أدعى إلى التشاؤم، لكن مع قدر من التبصّر لا يجوز إهمالُه، إدراك أنّ فلسطين باتت قضية دولية ضاغطة على أوروبا وأميركا، لكن إلى أيّ حدّ؟ هل ستقتصر على هذه الفترة؟ إذا كان فسوف تتجدّد. حاليّاً، ليست هناك بشائر قويّة، الحرب مندلعة و”إسرائيل” المسعورة تريد الانتقام من هزيمة مهما مرّ عليها الزمن، كانت درساً عسى أن يتعلّم منه الإسرائيليون عدم جدوى هذه العنصرية، لكنّه ما زال بعيداً عن إفهام مُجرم كنتنياهو المتشبّث بمواصلة حرب أبديّة، بمُشاركة أشباهه من العنصريّين المتطرّفين، ولمجرّد البقاء في الحُكم وإطالة عمره السياسي.

وبدلاً من الاعتراف بالجرائم والإبادات المرتكبة وتعذّر استمرار الاحتلال، سمَح هذا المجرم لنزعات الثأر المَرَضية عنده بالتفشّي بين معظم المستوطنين الإسرائيليّين، وانقادوا لآمال الحرب الشاملة، واستولت عليهم مشاعر الزهو “الوطنية” على إيقاع مَشاهد الدمار والقتل في غزّة. وأغلقوا آذانهم عن تحذير دعاوى “محكمة العدل الدولية” و”المحكمة الجنائية الدولية”. وقد لا تعني الكثير بالنسبة إليهم، فالغطرسة أعمَت عيونهم، لكنّها رغماً عنهم وضعت فلسطين في ضمير العالَم، ووضعتهم في قفص الاتّهام.