عندما كان الزعيم النازي أدولف هتلر يخطب في الجماهير، كانت الحشود الهائلة من الألمان تصفق له بحماسة، ويهتفون بحرارة. لم يكن مجرد خطيب مفوه، كان ممثلاً، بصوته الهادر الغاضب، وتقلص تعابير وجهه، وضربات قبضته على المنصة. كان المشاركون في هذه التمثيلية عن قناعة أو من دون قناعة، يعززون تأييدهم له برفع أصواتهم بالتحية النازية، وإداء التحية العسكرية، والمشاركة في المسيرات الضخمة.

يتضاءل أمام هذا المشهد، ما يجري في كوريا الشمالية، طالما الرعب يسيطر على الكوريين. كذلك ما يجري في سورية، فالهتافون والمصفقون لا قيمة لهم، عبارة عن حشود من أولاد المسؤولين وشبيحة ومخابراتيون، وعناصر دفاع شعبي، لا أكثر من أجراء للنظام، لزوم القمع والنهب.

تبدو المقارنة غير عادلة، الشعب الألماني تعرض للخديعة، هذا الشعب أعطى البشرية كبار الفلاسفة، كانت وهيجل وماركس، وكبار الموسيقيين، بيتهوفن وباخ وبرامز، يكفي جوته كمفكر إنساني عالمي. يصعب تعداد العباقرة الألمان الذين أصبحوا جزءاً من التراث الإنساني، عدا الإسهام في الحركات الفنية من الكلاسيكية والرومانسية إلى التعبيرية والفن الحديث، مع هذا استطاع زعيم ملتاث، إقناع الشعب الألماني بأن نقاء العرق الآري يخولهم السيطرة على العالم وتنظيفه من اليهود.

فُسر انصياع الشعب ورضوخه لدعايات هتلر بتمكنه من إدخاله في الغيبوبة، حالة أشبه بالسرنمة أو التنويم الإيحائي، ولم يكن على سبيل العلاج، كان لغسيل العقول، حتى الذين لم يصدقوا ادعاءاته صمتوا عن جنونه، ولقد دفع الجميع الثمن باهظاً، ملايين الضحايا وخراب ألمانيا. سرعان ما تكررت هذه الحالة على يد آباء الصهيونية، بتحريض اليهود في الشتات إلى العودة إلى أرض الميعاد. ذروة الخديعة لم تكن برئيس وزراء إسرائيل الحالي فحسب، وانما بسلسلة سبقوه من القادة الإسرائيليين على النمط نفسه، أدخلوا شعبهم في الغيبوبة مع قناعات تتضخم وتتفاقم، حول الشعب المختار، أو الشعب المتحضر، أو الشعب الضحية، أو شعب الهولوكوست، ما يحق لهم طرد مالكي الأرض بالقوة، واعتبار الفلسطينيين ليسوا أصحابها، ولا بشراً.

لا يمكن تفسير محاولات الإبادة المتكررة للفلسطينيين، سواء بالقصف أو بالترحيل والتهجير، سوى أن استيلاء اليهود على أراض ليست لهم، يوجب عليهم قتل صاحب الحق، لئلا يكون وجوده دليلاً على ما ارتكبوه من نهب وجرائم. بذلك يصبحون أصحاب الحق، وهي طريقة اقتناع مَرَضيّة، أن تقتنع أنك على حق، لمجرد اعتقادك أنك مجرم بريء.

يعيدنا إلى الحالة النازية، الصمت الألماني على طموحات هتلر من خلال القناعة بالتخلص من اليهود، على أنهم أسباب خراب ألمانيا الاقتصادي، وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ولا أكثر من طابور خامس.

المفارقة الصارخة هي أن يهود أوربا، الذين تعرضوا إلى الاضطهاد، كانوا ضحايا قضية فاسدة اختلقها النازيون، وإذا كان الصهاينة اليوم أحفاد الضحايا، فهم يقلدون جلاديهم بنذالة. ما دام أنهم لا يتبرؤون من أفعال المستوطنين اللصوص والمسلحين الذين يزعقون اليوم في الشوارع، ويعتدون على الأهالي الفلسطينيين بغية إخراجهم من بيوتهم للاستيلاء عليها، بينما الطائرات تقصف المدنيين في غزة، هذا وشعبهم المتحضر يبارك ما يفعلونه، أو غارق في الصمت.

في الاحتلال الإسرائيلي، تتآزر قضية فاسدة مع قادة فاسدون، مع الاستقواء بالهولوكوست وهو مأساة حقيقية، وليس أكذوبة، لا تعنيهم وحدهم بل تعني البشرية كلها، وتعنينا نحن أكثر لأنها تستعاد عملياً، وبصورة همجية في الاحتلال، فورثة الضحايا يتاجرون بها، والغيبوبة ليست إسرائيلية فقط، بل عالمية ومتعمدة في تأييد الجرائم الإسرائيلية، فالعالم يعرف، من دون التراجع عن دفن الحقيقة والتعامي عنها، وعلى رأسهم أمريكا، بل ويُتهم نضال الفلسطينيين بالإرهاب، ما أصبح حجة لكف يد الشعوب عن المقاومة.

قصة الحرب ضد الإرهاب أصبحت مشبوهة في العالم كله، إنها ترسيخ للظلم والطغيان والعدوان وسرقة الأوطان والتهجير والقتل، ولارتكاب جميع أنواع الجرائم بدعوى مكافحة الإرهاب، وإذا كانوا يرفضون البحث في أسبابه، فلأنهم يسهمون في تصنيعه وتوجيهه وانتشاره، وتلفيق أن العالم مهدد.

ليس وحش الإرهاب الخفي الذي يتمدد، سوى زعم، الدول ليست عاجزة، قدراتها العسكرية والمخابراتية كفيلة به، لكن تحت عنوانه، تُخضع شعوباً أو تسرق، تنتزع حقوقاً أو تطمس. ما دام المستفيد من تسويقه وترويجه، الدكتاتوريات والشعبويات والنزعات العنصرية.

ترتكب إسرائيل الجرائم يومياً، في حين يُنظر إليها على أنها ضحية، يشد من أزرها عالم مصاب بانحراف أخلاقي جائر، لا شيء يبرره، إنه جريمة كبرى. العالم ليس أنه لا يعرف، بل لا يريد أن يعرف، وإذا عرف فلينكر.

هذه الحرب لن تنتهي، إنها في الجوهر حرب الحقائق، لن تتوقف بوقف إطلاق النار، ما بعد هذه الحرب ليس كما قبلها. الغضب الذي عم العالم، والمظاهرات التي عمت شوارعه أثارت قلق الرأي العام. الناس تريد أن تعرف، الناس تريد أن تسمع، لدى العرب والفلسطينيين عمل كثير، التعريف بتاريخ هذا الصراع المستمر منذ عقود.

أبرز ما أحبطته الحرب، عبث وعود ترامب وعجزها عن الصمود، وإخفاق صفقة القرن، وانكشاف مهزلة التطبيع، وتداعي الظن بأن القضية الفلسطينية وضعت أوزارها، وأصبحت من الماضي المنسي. وما رُوّج عن تسابق العرب لحجز دور في التسابق إلى إرضاء إسرائيل. وربما يخجلون، ويتذكرون أنهم هم الذي دفعوا بمقاومة حماس إلى إيران. ويدركوا أيضاً، أن قضايانا الكبرى لا يقررها الحكام، إنها قرار الشعوب، مازالت فلسطين قضيتنا المركزية، حان الوقت لإنهاء استثمارها لصالح الاستبداد والطغيان العربي.

تعيدنا حرب الحقائق إلى المربع الأول، إن إسرائيل استعمار استيطاني.