“داعش” أولاً… الاستراتيجية التي تبنّاها أوباما، هل ثمة مانع في أن يرافقها العمل على التأثير في الأزمة السورية، بحيث لا تعطي مجالاً لإيران في أن تكون المستفيد الوحيد في المنطقة، لمجرد أنها تمسك بأوراق النظامين العراقي والسوري؟ هذا ما تدركه الإدارة الأمريكية ويحاول أوباما الالتفاف عليه، بحصر المهام العسكرية للتحالف باحتواء “داعش”. أما القضاء عليها فمتروك لمن سيأتي بعده، ومثلها إيجاد حل للأزمة السورية، كذلك القرار بالغرق في مشاكل المنطقة أو الخروج منها. أوباما حتى الآن مصرّ على عملية محدودة، تبقى معلقة، مدفوعة التكاليف، ومضمونة بتحالف واسع، ولو كان شكلياً، فالمتحالفون لا يعرفون ماذا بعد؟ أي أن ما يهمهم منها غير معروف، لا سيما تركيا والبلدان العربية المشاركة. العملية كما يوحى أو يقال، تمنع إيران من زيادة مكاسبها، وإبقاء الأوضاع على ما هي عليها، رهناً لقواعد الميدان، وأسيرة التحالفات في المنطقة.

غير أن الحروب والمخاطر ليست بهذه الدقة، لا يمكن ضمان الأوضاع من التغير، أو التغير طبقاً لمخطط المرسوم، ما بين تقدم وتراجع، في فعل استجابة دائمة للمعادلة الصفرية المفضلة للأطراف، طالما أنها لا تضع حداً لصراع لا تكون نتائجه لصالحهم، وما يساعد على استمراره على هذا المنوال، أنه لا غالب ولا مغلوب، غالبية الضحايا من المدنيين، مما لا يؤثر في سير العمليات القتالية. كل هذا الاطمئنان لا يمنع على الإطلاق من تحولات دراماتيكية تفلت من حسابات إدارة مسارات الحرب. فالتقديرات الأمريكية والأوروبية استهانت كثيراً بتنامي نشاط الجماعات الإسلامية، فإذا بها عندما استفحل خطرها تسارع إلى التدخل، بعدما فات الأوان على قمعها في المهد. ولا يستبعد بالتالي إفلات “داعش” من استراتيجية الاحتواء إلى ما هو خارج الضرب بالغيب الأمريكي.

أثبتت “داعش” أنها عسيرة على التوقعات، لا لسبب، إلا عدم الجدية في التصدي لها. ففي الفترة من ظهورها في حزيران الماضي حتى منتصف تشرين الأول، لم تحقق أمريكا إنجازات ذات تأثير في سورية والعراق، وأصبحت “داعش” على بعد نحو 10 كلم من محيط مطار بغداد الدولي، واحتلت بعض أحياء مدينة عين العرب السورية. وكانت نتائج قصف مواقع الدولة الإسلامية متواضعة جداً حسب شبكة (سي ان ان): “الغارات الجوية للائتلاف دمرت دبابتين، وجرافة وعربةعسكرية” هزالة الحرب أمست مصدر سخرية وسائل الإعلام، يومية “انفستر بيزنس ديلي” علقت بأن أمريكا ترسل مقاتلات متطورة باهظة الثمن لإطلاق أسلحة موجهة بالليزر لاصطياد جرّافات ثابتة!! طبعاً، ثمة مبالغة في السخرية والتشهير. ومع هذا إذا كان وزير الدفاع السابق بانيتا قد تنبأ لهذه الحرب أن تدوم ثلاثين عاماً، فعلى هذا المنوال قد تمتد إلى القرن القادم.

يمكن عزو انتصارات “داعش” إلى أنها تتقدم في ساحات مفتوحة خالية من مجابهات حقيقية، ولا يستغرب أن تحرز انتصارات أخرى في جبهات متنقلة داخل أوروبا وأمريكا، ولا يشترط أن تقوم بالعمليات خلايا نائمة، وإنما خلايا تتشكل على وقع زخم انتصارات “داعش” ودعاواها. وبما أن الاستراتيجيات الغربية مبنية على الذعر، فسوف يلجأ أنصار “داعش” إلى استثماره ببث المزيد منه، ما قد يدفع الغرب الى التفكير في الانكفاء داخل حدوده، أو الإقدام على خطوات حمقاء، أحدها التفاوض مع الدولة الإسلامية كأمر واقع، والتسليم بها على أن تبقى داخل حدود يتفق عليها، أو تلزيم المنطقة لإيران كقوة إقليمية كبرى بعد نزع مخالبها النووية، وضمان الأمن الإسرائيلي… هذا حال التحالفات فيما لو أمست في دائرة المتخيل، لن تستعصي عليها خيانة، ستأخذ المنطقة، إلى خيارات يمليها خيال مجنح، وكسيح على الأرض.

تبدو هذه التوقعات الخيالية مجحفة، لسبب جوهري، لا لأن الاستراتيجية الأمريكية خذلت دولا تحالفوا معها على أن تقدم لهم ما يحفظ أمن المنطقة، وإنما بالنسبة إلى الشعوب التي ناضلت من أجل حرياتها، فإذا بها تقع فريسة الطغيان من جديد. ماذا تكون إيران، أو “داعش”، أو النظام السوري والعراقي، وحتى الروسي غير تحالف للشر، مهما تنوعت أساليبهم، تصب في مجرى واحد: القهر والقمع.