في فجر يوم 28 أيلول، قامت بعض قطعات الجيش بحركة انقلابية، بقيادة مجموعة من الضباط. احتلت الدبابات المراكز الرئيسة في العاصمة دمشق، وأصدرت البلاغ رقم 1 بمنع التجول والتزام السكينة والهدوء، وسجل بذلك العسكر، انتهاء دولة الوحدة بين مصر وسوريا، بعد مرور ثلاث سنوات وسبعة أشهر على قيامها.
لا يمكن الحديث عن الانفصال دونما التعرض إلى الظروف التي أدت إليه. كانت الوحدة حلماً عربياً، هفت إليه الشعوب العربية، حلماً كان من فرط جموحه؛ أنه لم يأخذ بالاعتبار خصائص وظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية لا بد من عمل حساب لها. فالحدود بين الدول وإن كانت مصطنعة، خلقت مع تراكم السنين مستجدات واقعية من الصعب إنكارها أو تجاوزها، أو التقليل من شأنها. حلماً لم يستطع صانعوه دفع تكاليف تحقيقه أو استمراريته، ولا الدفاع عنه، أو تحويله إلى واقع صلب، لهذا بقي مجرد حلم تحقق شكلياً بالاستفتاء والقوانين والمراسيم، واكتمل على السطح بالحماس والخطابات والتصريحات والمظاهرات والاحتفالات.. في الحقيقة، كان أكبر دافع للوحدة، عدا الأوضاع السياسية المضطربة، وتهديدات إسرائيل والأحلاف الغربية، شعبية عبد الناصر التي اكتسحت العالم العربي خلال العدوان الثلاثي على مصر، لا سيما سورية.
وللذكرى، مع إعلان الوحدة، خرجت الجماهير في دمشق والمدن والمحافظات إلى الشوارع أشبه ببركان هائج يمكن أن يجرف من يقف في وجهه. فالوحدة لم تعد شعاراً، باتت حقيقة من المستحيل أن تقف أية جهة أمامها، لا الأحزاب ولا القيادات السياسية ولا دول المنطقة والغرب. كان تلك اللحظات العارمة بالحماسة صناعة طوفان مشاعر الجماهير. كل هذا ولم يشكل حماية للوحدة صباح ٢٨ أيلول.
هذا المشهد كان حقيقياً، لا يصح الاستهانة به.
أما ما قيل طوال عقود في تبرير انفصال الجمهورية العربية المتحدة، لو كان صحيحاً، لسعى صانعو الوحدة إلى التغلب على هذه المعوقات الجدية، وهي عبارة عن إشكالات اقتصادية يمكن بجهد مخلص إيجاد حلول لها على المدى الطويل، فنحن لسنا أول من يصنع وحدة، مهما كان نوعها في هذا العالم، فقد سبقنا غيرنا.
اليوم في حال نظرنا إلى العمق بعد مضي نحو ثلاثة أرباع القرن على إخفاقها، يمكن القول عن مبتكري هذه الوحدة الاندماجية، الذين حققوا نصراً وطنياً كاملاً، أن هذا الحلم السعيد، حتى لو تضاءل إلى مجرد قيام تضامن عربي، بات بعيد المنال أيضاً. وما ينبغي إدراكه هو أن الانفصال، هو الذي أسس للدول القطرية شرعيتها واستقلاليتها النهائية، ولم يعد التفكير في الوحدة إلا نوعاً متخلِّفاً من اللغو.
يمكن تلخيص ما جرى، أن العسكر الذين صنعوا هذه الوحدة، هم أنفسهم العسكر الذين صنعوا الانفصال. لم يكن الضباط وحدهم؛ بل كان وراءهم سياسيون مثل أكرم الحوراني وميشيل عفلق، وطبعا أحزابهم، عملوا عليها وباركوها وكانوا في صفوفها، لكنهم لم يستطيعوا التنازل عن طموحاتهم الشخصية في الحكم والسلطة؛ فالأحزاب وعلى رأسها حزب البعث طمح لدولة الوحدة على أن يتقاسم السلطة مع عبد الناصر. ولم تقبل الأطراف السورية العديدة أن تكون ضحايا لوحدة، لا تدوم إلا باستبعادهم. فحكم عليها الواقع السياسي السوري أن تكون وحدة مؤقتة، لم تكن إلا لحلحلة بعض الصراعات المحتدمة في الداخل، فالسياسيون المصنفون بالتقدميين رغبوا فيها لإنهاء سلسلة من الانقلابات وتدخلات العسكر، أما السياسيون التقليديون فلخوفهم من انخفاض المناعة السورية إزاء التغلغل البعثي والمد الشيوعي، فيما تسابق الضباط إليها هرباً من نزاعاتهم مع بعضهم بعضاً. عموماً كانت تحصينا من الأخطار الخارجية التي أخذت تهدد سورية.
لن ندرك أسباب انهيارها، إلا بالأخذ بعين الاعتبار ما شابها من تسرع أدى إلى ما كان فوق طاقة البلدين. آنئذ، لم يستطع رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي أن يفعل شيئاً، كان الضباط قد وضعوه أمام الأمر الواقع بذهابهم إلى القاهرة حاملين معهم مذكرة طالبوا فيها عبد الناصر بالوحدة، مع أن شكري القوتلي كان من أوائل المنادين بها، وكانت على الدوام نصب عينيه، حتى أنه قال يوم رُفع العلم السوري على دار الحكومة في دمشق 17 نيسان 1946: “لن يُرفع فوق هذا العلم إلا علم الوحدة العربية”.
لم تمر أيام على إعلان الانفصال حتى تسارعت الإجراءات والمراسيم نحو استعادة الديمقراطية على أسس سليمة، كانت خطواتها الأولى واللاحقة مبشرة، فقد بدأ العمل على دستور جديد، مع استعادة سورية علمها، والدولة اسمها، ونشيدها الوطني، كذلك العودة المظفرة إلى الجامعة العربية والأمم المتحدة، وانهيال اعترافات الدول على قيام “الجمهورية العربية السورية” من جديد… بدا وكأن السوريين تخلصوا من الاحتلال، ونجحوا في تحقيق الاستقلال الثاني.
بذلك انتهى كابوس الوحدة الذي أقلق ما يدعى بالدول الرجعية، كانت خشيتهم من عبد الناصر قد تضاءلت، بعدما هزموا شعبيته، وواصلت السعودية والأردن تدخلاتها في سوريا، فقد كان لكل دولة ضباطها المتعاطفين معها. لكن لم تتوقف خلافات الضباط والأحزاب وعلى رأسهم حزب البعث، الذي لم يكف عن الدعوة للوحدة، لكن على أسس واضحة، ولم تكن إلا هرباً من أية وحدة.
كان من الممكن أن يكون الانفصال خطوة عظيمة في الإقدام على صناعة مرحلة سياسية واقعية رائدة في الديمقراطية والحياة المدنية، تتداول فيها الأحزاب الحكم، مع قيام برلمان يمارس صلاحياته، كما كان إبان الانتداب والعهد الوطني. لم تكن هذه الأدبيات السياسية مجهولة، كان ثمة حياة سياسية سبقت، يمكن استئنافها، حتى أنه ما زال للتفكير بالوحدة نصيب كبير في فترة الانفصال، ولن يكون في العمل على استعادتها إلا أنها ستقوم على نحو واقعي. كانت الشاغل الأكبر للعرب، غير أن العسكر سيمتطونها، ويتاجرون بها، من دون أي نزوع حقيقي إليها.
لم يطل الوقت، عندما أدرك السياسيون الوطنيون أمثال شكري القوتلي وناظم القدسي وخالد العظم ومعروف الدواليبي ومأمون الكزبري، عبث إعادة العسكر إلى الثكنات، لم يكن انقلاب الانفصال، سوى أن الحكومات كانت تتوالى مقيدة تحت ظل دولة وقعت تحت قبضة العسكر تماماً، وسوف تسيطر نزاعاتهم على كواليس السياسة، استعداداً للاستئثار بالحكم، بعد تصفية خلافاتهم التي لن تنتهي، وإن استقر الرأي على تحرك عسكري يقوده البعثيون والناصريون كان انقلاباً محضاً دعي بـ”ثورة ٨ آذار”.
لم يخطر لأعتى السياسيين أن سقوط الانفصال، وقدوم العسكر إلا لأنها مرحلة لن تدوم، لكنها استمرت وأدخلت البلاد في دوامة سجلت نهاية الحكم المدني، والاتجاه نحو قيام دكتاتورية لا نظير لها، تحت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، وسوف تحصد على وقع شعارات الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة سلسلة من الهزائم، تُعلن على أنها انتصارات. وتزج بالبلاد في مستنقع من السلطة المطلقة تقوم على المخابرات والسجون والرعب والفساد، ما مهد للتوريث، بذلك أصبحت سورية دكتاتورية ملكية لعائلة بلغة ذروة جرائمها الوحشية، بتدمير البلد وتهجير نصف شعبها، ومقتل ما لا يقل عن مليون إنسان.
-
المصدر :
- العربي القديم