يستدعي التعليق حول ما دعي بـ”أزمة الإسلام” المتشابكة مع مقتل “المعلم الفرنسي” وجريمة كنيسة نوتردام بمدينة نيس، ومؤخرا حادثة فيينا. البدء باللازمة المعهودة التي أصبح متعارفاً عليها في الصحافة، ووسائل التواصل الاجتماعي، بإدانة هذه الجرائم النكراء، والتأكيد على نفي أي تعاطف مع القتلة، بهذا نتقيد بما أصبح تقليداً سارياً، لكل من يناقش ما يُتهم به الإسلام. وهناك من يُزيد على هذا التعهد، فيثبت براءته من الإرهاب، بعدم إظهار أي ميلٍ نحو المجرمين، ومن ثم نحو الإسلام، وربما أي دين، وقد يعلن إلحاده، والتزامه بالعلمانية، خصوصاً المتشددة…. هذا كي يعبر عن رأي، لن يؤخذ به، لأن الأكثر جرأة واطمئناناً اتهام الإسلام بهذه الجريمة، عندئذ لن يكون رأيه بعدها إلا استعراضاً سيئا للكراهية والجهل.

ليس من المبالغة القول إن الجريمة المعروف طرفاها، أي القاتل والقتيل، باتت مثقلة بما يزيد عنهما، طالما أنهما كلاهما ضحايا تراكمات دينية واستعمارية وعنصرية واستعلائية ثقافية وحضارية وسياسية، ما يستدعي القيام بمراجعات لتاريخ حافل بالحروب والأحقاد والضحايا وسوء الفهم. وقد يجد البعض أن في توسيع الدائرة تغييباً لهذه المعضلة، لا مواجهة لها، لكن تفكيكها بعدما استفحلت، يحتم مقاربتها بعدم إغفال عناصرها الرئيسة وتحولاتها هذا إذا أردنا ألا نتهرب منها، كما يجري بالفعل، وكأنما إيقاع العقوبة بقتل القاتل، كان انتقاما مؤثراً، أثبت فاعلية التدخل السريع، لكنه لم يفعل شيئاً أكثر من الأسوأ، فقد أزاح من صورة الجريمة القتلة ووضع بدلاً عنهم الإسلام، بعدما كانت الصورة تجمع بين القاتل والقتيل، أصبحت أمام الرأي العام تجمع الضحايا في طرف والإسلام في الطرف الآخر، وكأن في إدانة الإسلام عاملاً رادعاً للمسلمين يتجاوز اتهامهم، إلى التهديد الدائم بالإرهاب.

إن في توسيع دائرة الاتهام، ما يودي إلى صراع واسع النطاق، عندما اعتبر وزير الداخلية الفرنسي وجود حرب أهلية في فرنسا ضد المتطرفين. ولا حاجة لتعيين من هم المتطرفون، الأمر واضح إنهم المسلمون الفرنسيون، إنهم مدانون إلا إذا أثبتوا براءتهم. كما جرى الحديث عن “الفاشية الإسلامية”، بعدما أدت تصريحات الرئيس ماكرون من قبل، إلى نقل الاتهام والصراع إلى خارج فرنسا، لم تعد حرباً أهلية فقط، بل تخص العالم، ما أدى إلى تعدد ساحات الصراع، بنقلها إلى البلدان المسلمة أيضاً.

هل هي حرب عالمية؟ من المبكر هذا الادعاء، وإن أصبح يُلوَّح به، لكنها غدت كقضية عرضة لاستغلال الإسلام السياسي والمحرضين والمتشددين والدعاة والمجرمين، و”داعش” وغيرهم. بينما ما يجري على الجانب المضاد، يصب في الاتجاه نفسه، عنصريون فرنسيون، يعتبرونها جريمة تشكل اعتداء على القيم العلمانية للجمهورية الفرنسية، التحقت بهم أحزاب العنصرية الأوروبية، وما جعل منها قضية حامية أنها لم تُوفَر من الاستغلال لصالح انتخابات قادمة، ستلعب فيها هذه القضية الدور الأكبر. عدا الذين تركبهم الوساوس والهواجس من الإسلام، تهيأت لهم الفرص للترويج للبعبع الإسلامي. حتى بدا وكأن الفرصة سانحة للتخلص من المسلمين بدعوى الإرهاب، بالتالي لا حاجة إلى دليل على مؤامرة إسلامية على الغرب المسيحي، ولن ينقصنا الدليل عن توافر مؤامرة غربية على الإسلام.

ليس من الانحياز القول، إن فرنسا أخفقت في إيجاد حلول للفرنسيين المسلمين ما دام أن حصتهم من الجمهورية، كانت التمييز والعنصرية والمناطق العشوائية التي تغص بالجريمة والمخدرات والجهل، ليس أنهم لم يندمجوا، بل إن الحضارة الفرنسية لم تفتح لهم ذراعيها وتعاملهم كغيرهم من الفرنسيين.

لن تأخذ قضية أزمة الإسلام المسار الصحيح، إلا باستبعادها من الاستثمار في سياسات محلية جاهزة لتُجيّر عالمياً لصالح سياسات الهيمنة، وإذا كان الإسلام في أزمة فمعالجتها سوف تستمد عناصرها من أبجديات “فوبيا الإسلام” المشحونة بالكراهية والمخاوف، ولنتذكر أن مجازر البوسنة والهرسك أودت بحياة ثلاثمئة ألف مسلم، ولم يقل أحد أن لدى الصرب أزمة مسيحية، بل قيل إنهم ارتكبوا جرائم كراهية. كذلك عمليات الإبادة التي ترتكب في حق “الروهينغا” في ميانمار، لم يقل أحد أن هناك أزمة لدى الأغلبية البوذية، كذلك لم يشر في اضطهاد المسلمين الإيغور في الصين إلى أزمة في الكونفوشية، إضافة إلى ما يمارس في الهند وغيرها. لم ترتفع الأصوات وتحمل الأديان عبء الجرائم المرتكبة، فلماذا الإسلام فقط؟

الإسلام مثله مثل أي دين أو عقيدة في عالمنا، يدعو إلى الخير والعدالة والسلام والأخلاق الحميدة، ولديه أيضاً طاقة جهادية، يستحيل أن تخلو منها أية عقيدة أو أيديولوجيا. إن قصر النظر وحده يميز بين عقائد مسالمة، وعقائد مقاتلة، دائما ما تجمع العقائد النقيضين معاً من دون تجنٍ عليهما، والا لم تستمر وتحيا. فالأديان خلال بعض المراحل التاريخية كانت في حالة دفاع عن النفس، أو تحقيق انتصارات، ومثلما اضطرت إلى العنف، كانت طاردة له.

أما عن مقياس حرية التعبير عن الرأي، فمن المؤسف ألا يستبعد التحرش المقصود بالعقيدة، والاستهزاء الرخيص بها، إلى حد الاستفزاز المقيت، والأمثلة أصبحت كثيرة، كتدنيس القرآن في معتقل غوانتانامو في العراق، والجدل حول حرق القرآن في فلوريدا ٢٠١٠ ، والرسوم الكاريكاتيرية المسيئة التي تسخر من النبي محمد في الدنمارك عام ٢٠٠٥ ، تبعتها صحف في النرويج وألمانيا وفرنسا، لمجرد أنهم يعرفون أن النبي محمد محرم تصويره، إلى أن أعادت جريدة شارلي إيبدو نشر رسوم أخرى بأساليبها البذيئة. خلال بضعة عقود أصبح هناك تاريخ عنصري يستسهل إهانة الإسلام.

قيل، إنهم لم يوفروا الدين المسيحي واليهودي من سخرياتهم، لكن هل هذا يعني أن المسيحيين واليهود كانوا راضين؟ طبعاً لا. بعد ذلك، هل يمكن التحكم بردود الفعل في أجواء متوترة، خاصة بوجود شبكات وخلايا متأسلمة مسلحة، تقتات هي أيضاً من هذا العداء، ويخدم أجنداتها الإرهابية، تستغلها جهات تجند حملات متعمدة ضد الإسلام والمسلمين. ما يجعل التحكم مستحيلاً بردود فعل ذئاب شاردة لا يمثلون مليار ونصف مسلم. مع أنه غالبا كان المسلمون أول من يسارع إلى إدانة هذه العمليات الإرهابية، وكان هناك من يسارع ويسبقهم متعمداً اتهامهم، باعتبارها فرصة سانحة للتحريض ضدهم، والترويج بأنهم قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة.

اليوم، يقف مسلمون مؤمنون بدينهم في مشارق الأرض ومغاربها، كل واحد منهم، يشعر أنه المتهم “كاف” في رواية “كافكا”، لا يدري لماذا هو مدان؟ ولماذا هو مذنب؟ ما هي جريمته؟ ولماذا يتحمل مسؤولية مقتل أناس أبرياء من بلدان أخرى، لا يكنّ لهم أي عداء، لم يرهم ولن يراهم، مدركاً بأنهما معاً يحق لهما العيش بأمان؟

ولا بأس من التنويه بأن العربي، سواء كان مسلماً متديناً أو علمانياً أو ملحداً، يعتبر أن الإسلام جزء من هويته، مثلما المسيحيون العرب يعتبرون الإسلام جزءاً من هويتهم.

المؤسف أن السياسة لا تفكر بإصلاح العالم قدر ما تسعى إلى تخريبه، وتمنح طموحات السياسيين القدرة على السعي نحو حلول هي الأسوأ في معالجة أكبر الجرائم الإنسانية وحشية؛ لا تقل عن تبرير القتل بالقتل. إن المعالجات الخاطئة، تسمح لهذه الجرائم ألا تتوقف، طالما أنها تُترك لدعاوى علمانية متغطرسة، ودعاة أديان الكراهية.

ليس أن العالم غير عادل فقط، بل في أن العالم غير عاقل أيضاً، يراكم مشاكله وإشكالاته، لسنوات وعقود قادمة، وربما لقرون، الدين حاجة روحية وأخلاقية وإنسانية، لن يرحل عن هذا العالم، ولن ينتهي، وبدلاً من أن يفرز جرائم وحروب، فلندعه عامل خير وسلام وعزاء للكثيرين من البشر، ليس لديهم نصير، ما دام الظلم في العالم لا يبشر بنهاية قريبة ولا بعيدة. ولتكن العلمانية كما تعلمناها وفهمناها حماية لحرية الرأي، وليس لبث الضغائن والبغضاء.