لم تعد المشكلة في اكتشاف عالم جديد، والعمل على ازدهاره، وإنما التفكير في كيفية حمايته، إذ سرعان ما يجري العمل على تشويهه، ويُصبح الهدف الاستيلاء عليه، ولو كان فضاءً مفتوحاً، وهذا ما يساعد على الاقتطاع منه فسحة، تشغلها حسابات وهمية تمارس السطو والاختلاس، ويسرح فيه الذباب الإلكتروني.

فالعالم الافتراضي، رغم ما يكال له من انتقادات، كان مكسباً للبشرية، أتاح مجالاً هائلاً للتواصل، وبات عالماً نتحرّك في داخله، لدينا أصدقاء نتعامل معهم، وشبكات نشارك فيها تهتمّ بالمعرفة والفنّ والمسرح والسينما… نكاد نقول كلّ شيء، وبما أنه يتّسع لكلّ شيء، اتّسع للدعاية والشائعات والكذب والادعاء أيضاً، ولمختلف أنواع الجرائم، من التزوير إلى بثّ الكراهية، وحتى التحريض على ذلك.

يُوحي العالم الافتراضي بعالم حقيقي، من فرط انعكاسه على حياتنا، عالم انتقلت إليه معارك الواقع، تُخاض فيه خصومات وشجارات تلعب فيها كتائب الذباب الإلكتروني أدوراً مُريبة مسلّحة بـ”الهاشتاغ” و”الترند”، الأشبه بشعارات تتمثّل بآلاف التغريدات، وربما بمئات الآلاف وأكثر. وتعمل على استهداف دُول من طريق التلاعُب بصُور وفيديوهات، تُجرى عليها تعديلات وتغييرات، وتُفبرِك أحداثاً غير حقيقية، بقصد الإساءة إليها بقضايا متعلّقة بانتهاكات حقوق الإنسان، للتأثير في الرأي العام، أو جلب الاهتمام إلى فكرة ما هامشية أو مُختلَقة لإبعاد الأنظار عن أُخرى ذات أهمية، أو اختلاق صراعات مشبوهة عادةً ما تُثير تفاعُلاً كبيراً في الأوساط الإعلامية، أو التشويش على قضايا جوهرية، وتوجيه انتقادات لا تقف عند حدّ، من شتائم وابتزاز وتعريض وتخوين. كذلك عدم التورّع عن تحويل نقاشات فكرية أو اجتماعية وسياسية وثقافية إلى أمور شخصية.

أكثر ما تنتشر موجات التضليل في أثناء الحروب والصراعات

أحياناً، ما قد يمنحها مصداقية مؤقّتة، استخدامها لحسابات أو أقوال لأشخاص حقيقيِّين موثوقين، ولا يكون عمل الذباب الإلكتروني سوى رفع درجة التفاعُل بها بالترويج لها. هذه العملية لا تستثني دولاً ومؤسسات وشخصيات أو أية جهة كانت، بالاعتماد على برمجة منشورات وتعليقات تعمل آلياً على تكرار الشائعات، تعزّز كثرة تكرارها دخولها في لاوعي المتلقّي وتؤثّر فيه.

يبرز عمل الذباب الإلكتروني بشكل لافت في الصراعات والأزمات السياسية، تجلّى في العقد الأخير عالمياً في الجدل الذي أحدثه الاشتباه في تدخّل روسيا بالانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، واتّهامها بالتلاعُب في الرأي العام الأميركي، من خلال اختراق الشبكة الخاصة للجنة الوطنية التابعة للحزب الديمقراطي، وتسريب معلومات على شبكة الإنترنت، للتأثير في السلوك الانتخابي للمواطن الأميركي.

بينما تجلّى تأثيرها في بلادنا طوال الأزمة السورية، ما حوّل مواقع التواصُل الاجتماعي إلى منبر للتعبئة والتجييش وتغذية الطائفية والكراهية، كانت ميدان معارك افتراضية بين داعمي النظام السوري ومعارضيه. وكان أبرز ما كشفت عنه الحرب السورية، وجود شبكة تروّج لنظرية المؤامرة، أرسلت آلاف التغريدات المضلّلة لتشويه واقع الصراع السوري ومنع تدخّل المجتمع الدولي. كانت مدعومةً بشبكة روسية، عائدة لحسابات من أفراد ومنظّمات في وسائل التواصل الاجتماعي، نشرت معلومات مضلّلة، اشتملت على روايات كاذبة عملَت على تحريف جُهود “الخُوذ البيضاء”، المنظّمة التطوّعية المُسعِفة في المناطق التي خرجت عن سلطة النظام. ركّزت الحملة أيضاً، بالتنسيق مع الرُّوس، على إنكار الحقائق أو تشويهها حول استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية، وعلى مهاجمة النتائج التي توصّلت إليها “منظّمة حظر الأسلحة الكيماوية”.

شائعات يُعزّز تكرارُها أن تكون مقبولة لدى المتلقّي

إنّ بلوغ الذباب الإلكتروني هذه القدرة الفائقة على قلب الحقائق كلّية، حقائق متيّقن منها، إنْ لم يكن نفيها فالتشكيك فيها، حتى أصبحت تحتاج إلى إعادة تأكيد حقيقتها، مع أنّ النظام اعترف بها، بتعهُّده تسليم مخزونه الكيماوي، بعد محادثات أميركية – روسية حول الهجوم الكيماوي، الذي ذهب ضحيّته ألف وخمسمائة شخص أغلبهم من الأطفال.

هل يصحّ القول إننا ندلف في العالم الافتراضي إلى غابة تفقد مع الوقت الصلة بالعالم الواقعي، حتى إنّ الواقع قد لا يعود واقعياً، طالما لدى مختلف الأطراف جيوش من الذباب الإلكتروني قادرة على ابتكار قضايا زائفة، وأخبار زائفة، وبشر زائفين، ومشكلات زائفة، وعواطف زائفة… تدور على شاشة اعتدنا أن نصحو ونغفو عليها، ونستقي منها أخبار عالم بات زائفاً.