في يوم الثلاثاء الأوّل من آذار/ مارس، في مؤتمر نزع الأسلحة، مع بدء كلمة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف المسجَّلة، غادر الدبلوماسيون مقاعدهم، فأُلقي الخطاب في قاعة شبه فارغة، كذلك في جلسة مجلس حقوق الإنسان بجنيف. كانت لفتة جيّدة أعفت الدبلوماسيين من سماع أكاذيب، كانت تدور حول آمال لافروف في أن يُدرك الجانب الأوكراني خطورة الموقف ومسؤوليته إزاء العمليات العسكرية، فروسيا لم تتحرّك إلّا بهدف نزع سلاح نظام نازي، واتهَّم الحكومة الأوكرانية بأنها متورّطة في عمليات تطهير عرقية ودينية وثقافية تغاضى عنها الغرب، روسيا ستتولّى علاجها.
لم يتحمل الغرب سماع لافروف بعد الغزو مؤخّراً، بينما سمعه طوال عشرة أعوام يوالي أكاذيبه حول الحرب السورية التي تحولت إلى أزمة عالقة، أسهَم ببراعته في جعلها مزمنة، ففي مجلس الأمن لم تتوقّف الدبلوماسية الروسية عن استعمال الفيتو حتى لعرقلة وصول المساعدات الإنسانية، من دون اعتراض جدّي من الغرب، خاصةً بعدما أصبح مألوفاً رؤية لافروف يسرح ويمرح في كواليس الدبلوماسية.
على كل حال، ليس هذا حديثنا، ولا الإشادة بخطوات المجتمع الدولي في التعبير بجدّية عن إدانته الغزو الروسي لأوكرانيا. قبل البدء، لا بأس بالعودة إلى عشية هزيمة حزيران/ يونيو 1967. كان الردُّ عليها في الشارع السوري، انتفاضة البعثيّين وتسييرهم مظاهرات شتائم للدولتين الأميركية والبريطانية، كان أغلبهم من الزعران، شنّوا هجوماً على المركز الثقافي الأميركي، وحطّموا موجوداته. وشوهدت في حينها رواية “هكلبري فن” لـ مارك توين وكتاب “والدن وحي الغابة” لـ هنري ثورو قد تبعثرت صفحاتهما على الرصيف. بعد أيام، تعالت أصوات تطالب بمنع تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس، والأدب الإنكليزي في الجامعات.
ليس ما حدث عجيباً؛ فالذين كانوا وراء هذه الهجمات على الثقافة أناس قومجيون موتورون. ومع بعض التفكير، نقول إنّنا لا نستثني دولة ربما من هذه المشاعر القومية المغالية التي ينقضّ أصحابها غاضبين عندما يشعرون بأنها خُدشت، أو أنهم في حالة حرب ساخنة أو باردة، فتصدر عن مسؤولين كبار في مناصب مرموقة في الدولة تصريحات تثير الغثيان من فرط تشنّجها.
من السخف الخلط بين الأدب الروسي وطموحات بوتين الشريرة
في أميركا، إبان الحرب الباردة مع الروس، قاد السيناتور مكارثي حملة شعواء ضدّ كبار الكتّاب والفنّانين اليساريّين ولاحقهم باتهاماته بالشيوعية، ما أدّى إلى محاكمات وتحقيقات وشهود، أدّت إلى فصلهم من أعمالهم، كان أكثر ما بطش به، ممارسته الضغوطات على أدباء للوشاية بأصدقائهم، وكان من الضحايا شارلي شابلن وبرتولد بريخت، اللذين غادرا أميركا بعد اعتبارهما من الأشخاص غير المرغوب فيهما. في ذلك الوقت، انصبّت نقمة مكارثي على الثقافة الروسية، وأصبحت مشبوهة أدباً ومسرحاً وسينما وموسيقى.
ما حدث في وقت مبكر من الحملة الروسية، اتّخاذ إجراءات الارتجالية، أعلنت نقمتها على الأدب والفن الروسيّين، وهي ظاهرة غريبة على الحضارة الأوروبية، فقد أعلن رئيس بلدية ميونخ عن عدم إقامة أيّ حفلات لأوركسترا ميونخ الفلهارمونية تحت قيادة الروسي فاليري جيرجييف، وأنّها ستستغني عنه إن لم يصرّح، بصورة واضحة وقاطعة، عن احتجاجه على الغزو الروسي لأوكرانيا. إضافة إلى قيام أوركسترا زغرب الفلهارمونية بسحب مقطوعتين موسيقيّتين للروسي تشايكوفسكي، واستبدالهما بعملين لبيتهوفن وصامويل باربر.
لم تقتصر حرب الاستبعاد على الموسيقى. أصابت أيضاً الأدب الروسي، فقد أبلغ باولو نوري، صاحب كتاب “الحياة المذهلة لفيودور دوستويفسكي”، برسالة من الجامعة بإلغاء دورة من أربعة دروس عن أدب دوستويفسكي. وإذا كان المنع، لمجرّد أنّ دوستويفسكي كاتب روسي، فهذه رقابة من نوع جديد.
بينما كان الدفاع عن استبعاد تشايكوفسكي هو أنّ الموسيقيّين لا يحملون أسلحة، أنّ سلاحهم الموسيقى، والفن يحارب من خلالها. حسناً، هل اعتبر الموسيقيّون أنّ الراحل تشايكوفسكي يشارك في حرب بوتين بشكل ما، ولو كان غير مفهوم؟ إذا كان المنع على هذه الشاكلة، فسوف نسمع الكثير من هذا الهراء. وكلّ هذا بسبب الوضع الجديد في أوكرانيا الذي يؤثّر على العالم بأسره ويثير قلقاً مرعباً، فهذه الحرب قد تشمل أوروبا، بينما الحروب، منذ ثلاثة أرباع القرن، تدور في تلك البلاد البعيدة التي تلفظ مواكب اللاجئين، من دون أن يصبّ أحد نقمته على سياسة بوتين على الأقلّ.
لن نتحدّث عن الحرب، فما زلنا في مجال الثقافة الرفيعة، تُرى هل يبشّر الحدث الأوكراني بعودة المكارثية؟ أي أن يصبح الأدب والفن الروسيّان مطاردين، ما دام أنّ دول أوروبا تتبارى في إدانة الأدب على أنها إدانة للغزو، مع أن الأدب الروسي غزا العالم منذ قرون ونشر أروع الأفكار الإنسانية، ومن السخف أن يقع الخلط بينه وبين طموحات بوتين الشرّيرة؟
اللافت أنّ السيناتور مكارثي كان سياسياً يمينياً حاقداً ينظر إلى الثقافة بعين الريبة، لم يضارعه سوى الموتورين البعثيّين الذين صبّوا نقمتهم على هرمن ملفيل وإرنست همنغواي وآرثر ميلر. بالعودة إلى هذه الموجة الأوروبية الثأرية التي تبدو حالياً صغيرة، لن تبقى على حالها إذا أُفسح المجال لها وحظيت بالتشجيع، مع قليل من الوقت ستطاول تولستوي وتشيخوف وما أنتجته روسيا، لكن وللتذكير لم يعد هذا الفن العظيم روسياً فقط، بات من تراث الثقافة الإنسانية. المشكلة المروّعة أن من يتولّى هذا الإرهاب جهات ثقافية، وليس سياسيّين حمقى.
-
المصدر :
- العربي الجديد