قالت العرب: “ليس الخبر كالمعاينة” إشارة إلى ضعف النقل أمام الرؤية المباشرة، ولكن ماذا لو نقل الحدث نقلًا أضاء معتمه، وفسّر غامضه؟ هل يبقى الخبر دون المعاينة أم ينافسها؟

هذا ما قام به محمد منصور في كتابه “ضمير المتكلم” الذي قدم فيه دراسة نقدية عن رواية “السوريون الأعداء” للروائي السوري فواز حداد، إذ تولى دور الدليل يأخذ بيد القارئ مرشدًا ومترجمًا وشارحًا، حتى احتوت دراسته الروية من جوانبها كافة، مشيدا بادئ ذي بدء بالخطوة الشجاعة التي أقدم عليها كاتب الرواية حين صور الواقع بلا مساحيق تخفي وجهه القبيح بعد أن فتكت به الأمراض الطائفية، فنخرت نسيجه وفككته، وباتت تحكمه وتتحكم به، وبذلك بين منصور الخطوة الأهم في الرواية وهي كشف المستور، والحديث بالمسكوت عنه للمرة الأولى في الأدب.

ولا شك أن الناقد حين يكون على دراية تامة بالفترة التي عرضت لها الرواية، فإن مصداقية الخبر -وإن كان متخيلا – ستكون على المحك، ومن هنا كانت التوضيحات التي تخللت الدراسة على الحالة السورية بمثابة تثبيت لواقعية الحدث، ومصداقية الكاتب، وأن الأحداث -وإن كانت متخيلة- فقد حدثت بفظاعة أشد من كلّ تصور، ومن ثمّ حقق الروائي المحاكاة كما أراد لها أرسطو “محاكاة ما يمكن أن يكون على سبيل التوقع والرجحان”.

وأحاط الكاتب بأحدث الرواية بملخص بَدَأ به فصوله، لكن هذا الملخص تشظى إلى نقاط ارتكازية كان يضيئها في كل فصل من فصول الكتاب، وركز على الفترات التي جرت فيها الأحداث والتي شكلت الإطار الزمني للرواية وأحداثها، وتقلبات تلك الأحداث في أكثر من مكان ما أفضى به إلى دراسة سيميائية الفضاء الروائي، ومساءلته المكان لمعرفة الدلالات التي أشر عليها، ودوره كعامل مساعد في بناء الأحداث.

كما حلل الكاتب بناء الشخصيات وتكوينهم النفسي والسلوكي وأدوارهم ، وتقلباتها مع تقلبات الأحداث وقدرة كل شخصية على التأقلم مع واقع مأزوم بل مضغوط عادة ما يبرع فواز حداد في بنائه، وأثر ذلك كله في تغيير قناعاتهم بل وعقائدهم؛ وبناء على ذلك كله، سلك الكاتب مسلكين لمنهجين نقديين:

الأول: المنهج السيميائي مستخدما أدواته الإجرائية في تحليل الصراع الدرامي، وتفكيك بنية المكان ودلالاته ودوره في بناء الرواية وفضاءاتها، كما مكنته تلك الأدوات من تفكيك الشخصيات الروائية، التي قلبها على أكثر من وجه من خلال تناولها في أكثر من فصل.

أما المنهج الثاني الذي سارت الدراسة في خطه فهو المنهج النفسي، الذي لا مفر منه خصوصا في دراسة شخصيات فواز حداد، لما يلمس في هذا الكاتب من مهارة فنية تمكنه من تسخير الإيماءة والحرف والكلمة والجملة للغور في عوالم الشخصيات، ما يجبر القارئ على الوقوف مرات ومرات مفسرًا لهذه الكلمة أو تلك الإيماءة وإشاراتها النفسية.

ولم يفت الكاتب أن يبوب دراسته ويقسمها إلى عناوين حتى لا تبدو كأنها سرد لانطباع عفوي مستعملا لغة لينة بعيدًا عن تعقيد النقد وجفاء مصطلحاته، فاستعمل لغة سهلة على الرغم من عمق دلالاتها، بحيث يفهمها غير المتخصص ويقتنع بها المتخصص، ولا يفوت قارئ الكتاب أن اطلاع الكاتب على الأحداث التاريخية التي بنيت عليها الرواية عزز قدرته على فهم الأحداث والغوص في تفاصيلها.

وختاما فإني وإن قرأت دراسة “السوريون الأعداء” قراءة المتمعن، فإني لن أقوى على قراءة الرواية ذاتها، لخبرتي بقدرة فواز حداد على جرّ القارئ حتى ينغمس في الوضع المتأزم لفضاءات شخوصه، فكيف إذا كان العمل يتناول أكثر مراحل تاريخنا تأزما! وسأكتفي بحكاية محمد منصور عن الرواية وأعدّ نقله لخبرها كمعاينتها، بل كمعايشتها، كما عدّ هو من ناحيته أن نقل حداد لأحداث سوية على مدار عقود كمعاينتها، بل قد يكون أكثر دقة.