يبدو تناول موضوع المعايير في الأدب من قبيل البطر الثقافي، واللاواقعية الأدبية. وكأننا نعود بالأدب إلى عهود مظلمة، لا تأخذ بالاعتبار أدباً متحللاً من القيود، يتمتع بالحرية المطلقة، تحت شعار أدب بلا حرية، أدب بلا آفاق، يولد ميتاً، فالمعايير تحجب الإبداع، على افتراض أنها ثابتة، لا تتزحزح منذ اجترح الإنسان الأدب في التعبير، وتمنعه من التفاعل مع الواقع والحياة. الأدب لا جدوى منه، إلا باستبعاد المعايير المعوقة.
من هذه الناحية المتطرفة، يبدو أن المجددين في الأدب ينحون ليس إلى التساهل، وإنما إلى نسف ما جرى التوافق عليه، إلى التأكيد على معايير أخرى للأدب، تساعد على تسويقه، بغية انتشار أوسع، وقد تحقق الهدف إلى حد جيد، مقارنةً مع ما قبل. الإنجاز تجلى في تكريس الرواية الشعبية، فتكسب جمهوراً أكبر، ما يجعلها تدخل البيوت، وتعقد من أجلها الندوات، ويجري الحديث عنها في الصحافة، بدلاً من أن تكون نخبوية، معزولةً إن لم نقل منبوذة من الجمهور العريض، الأدب ليس للخاصة، إنه مثل الهواء متاح للجميع من دون تخصيص، لا يجوز للأدب التعالي على الناس. ولا هو شأن النقاد المحترفين فقط، ولا المهووسين برفعته.
في السنوات الأخيرة، أسست الرواية مكانة تتزايد باطراد، بالتخفف من المعايير، وعدم الإلحاح عليها، والتدقيق فيها. ما اعتبر خطوة إيجابية، نحو كسر جمود الرواية، بحيث يكون لكل عمل معاييره الخاصة، ما يسهم بتطوير الفن الروائي وترويجه.
هذه النظرة إلى الأدب، كانت، أيضاً، اعترافاً بضخ دماء جديدة إلى الرواية العربية التي بدأ الاهتمام بها يأخذ شكلاً أكثر فاعلية، وأصبح لها قراء مواظبون، وصحافة متعاطفة معها، ونقاد يغضون النظر عنها، ما حرّض جهات ثقافية على تشجيع الشبان على الكتابة الروائية، بعقد حلقات للتدريب على العمل الروائي، أو بمنح دعم مادي لشبان الرواية.
مهما حققت الرواية الشعبية من طفرات، فالحديث عن المعايير ليست حديثاً في الهواء، ولا من فراغ. هذا فن يطور أدواته باستمرار، وإن كان ببطء، مدين لأجيال من الروائيين. إذ يستحيل تجاهل تاريخ الرواية، ولا الجهود النقدية في التنظير الروائي، والتراث الروائي الحافل بإنجازاتٍ، لا تكفي أعماراً من البشر لاستهلاكه، لذا، النوعية مطلوبة، ويتسامح مع الأقل، لكن الأكثر مطلوب، العمل الجيد، درس في الجودة. وإعلاء قيمة الرواية النخبوية ليس خطأ نخبوياً، وتشجيع التجارب الشبابية لا يتعارض مع التأكيد على المعايير. إن عدم الاستهانة بالرواية الشعبية يعزز القراءة، لكن، على ألا يضلل القارئ والكاتب معاً.
الرواية بطبيعتها مفتوحة على التجربة، وإذا كانت القواعد الأساسية تميز بينها وبقية الأجناس الأدبية، فهي لا تغفل قابلية التأثر والتأثير بينهما. والشكوك التي تتناول المعايير، وما يزعم عن تخلفها عن روح العصر، وعدم انسجامها معه، وتعارضها مع التجريب الروائي. هي معايير مرنة، وإلا لم تتطور الرواية. وسواء كانت الرواية شعبية أو لم تكن، ينبغي إبراز المعايير التي اعتمدت في تقييمها، على ألا تكون بعبارات سطحية وعامة، أي تشير إلى ما حققه الكاتب من تميز.
تطال الانتقادات الأبرز العبث بالقواعد في الروايات العربية، نلاحظ استهتاراً غريباً باستعمال اللغة التي هي حامل العمل الروائي، يتبدّى بضعفها وعدم الدقة والوضوح في التعبير، مع أنها الأداة الرئيسة في الرواية. كذلك افتقاد القدرة على الإقناع، دونما فرق بين الروايات الواقعية، أو الفانتازية، أو الواقعية السحرية، لكل منها، تركيبتها الخاصة في مجالها. فعندما تطير السلاحف، والمجانين أكثر حكمة من العقلاء، ثمة درجة من الإقناع لابد منها، بمعنى أن هذه العوالم غير سائبة.
الرواية العربية إن لم تكن تؤسس لمرحلة جديدة في تاريخها الحديث، فهي ترسخها. ووجود معايير لا يمنع التنوع، كما أن نخبوية الرواية لا تمنع شعبيتها، لئلا نعمل على ترويج الرواية، فإذا بنا نمسخها. لا يجوز الخلط بينهما، لكل منهما قراؤه، وأفضل ما نفعله هو تحقيق العدالة الروائية، ليس بالكمية، بل بعدم منع أي تيار روائي تحت أي زعم.