هل كان النظام السوري طوال الأسابيع الماضية، ينسحب من مواقعه في أدلب وجسر الشغور وتدمر وأريحا، أم أنه كان ينهزم؟ الانسحاب لا يلغي الهزيمة، فالجيش عندما لا يستطيع الاحتفاظ بمواقعه ينسحب بداعي تخفيف الخسائر. جميع هذه المواقع خضعت لهذا الاعتبار، وكانت الخسائر كبيرة، فالهزيمة لا بد منها، وانسحابات الساعات الأخيرة لم تكن ناجحة. أما الخريطة الناجمة عن هذه التحولات، فغير مبشرة، حصدت فيها “داعش” ما يعادل 50 بالمائة من مساحات إن لم تكن احتلتها، فساقطة عسكرياً، وما تبقى تقاسمه النظام وفصائل المعارضة المسلحة.

يمكن الزعم حسب محللين، أن خريطة واقعية أصبحت في طور التنفيذ، ما يوفر على القوى الدولية الراغبة في إيجاد حل للمسالة السورية وضع حدود لنصيب كل من الأطراف المتنازعة، فالخريطة التي ولدت بعد أربع سنوات من التقاتل، كانت متوقعة، وترضي الداعمين الدوليين في الوقت الحاضر، ريثما يجري تثبيتها بديلاً عن حدود سايكس بيكو، إن لم تظهر مفاجآت في هذه الحرب التي اعتادت على تبديل وجوهها من يوم لآخر، ما اضطر الدول الراعية إلى إعلان عكس ما تبطن، يتجلى في المشهد الإعلامي الذي دشنته أمريكا في الكذب المستمر، وعلى نهجها أوربا التي من فرط ما تعقبت استراتيجية الغموض، لم تعد تعرف أين تقف، إلى جانب النظام، أم المعارضة، وربما “داعش”. ما يوحي على الأقل بتنصل أمريكا من الأزمة السورية، إلا حين ترجح كفة المعارضة، فتتدخل لتكبح تقدمها. ما زالت متشبثة بالتنظير الأولي للحروب الناجمة عن الربيع: “دعهم يتقاتلون”، مهما ساءت أحوالهم، فهي الأفضل، المدن التي يدمرونها هي مدنهم، والجيوش التي تتآكل هي جيوشهم، والقتلى قتلاهم، المهم أنه لا يعرضها إلى الانتقادات الإسرائيلية. فالأمريكيون يقدمون خراب سورية خدمة طالما تمناها الإسرائيليون، فلماذا انقاذها إذا كانت تحفظ أمن إسرائيل بضعة عقود أخرى؟ هذا لا يبرر تحميل أمريكا الجريمة كاملة، السوريون على معرفة بالسياسة الأمريكية في وقت مبكر، وتأكدت بعد ضربة الكيميائي.

لم يعد ثمة الكثير من الاعتراضات والمحاذير من تقسيم سورية، بعدما كان تقسيمها والعبث بجغرافيتها خطا أحمر لدى جميع الأطراف الداخلية والدولية حسب ادعائهم، وكان التباري إلى ابداء التطمينات متوازياّ، بينما اليوم في كواليس السياسة الدولية، بات حلاً معقولاً لوقف إطلاق النار، ونجاة الأقليات من الذبح. النظام السوري الذي لم يوفر تصريحاً يؤكد على سورية موحدة، يعتبر المناطق التي انتزعت منه حاضنة للإرهاب، لا تهمه إلا بقصفها بالبراميل المتفجرة، وحماية ما يدعى بمناطقه. أما المعارضة المسلحة في الشمال، فعلى الرغم من توحدها، مهددة بالانفراط والعودة إلى ما كانت عليه، إذ ما الضمانة لوحدتها، ما دام أنها تمت تحت ضغوط الداعمين، لا من الحاجة الماسة إلى نضال لا يمكن الفوز فيه إلا بحرية سورية ووحدتها؟ أيضاً حال الجنوب، الذي تغيب أخباره وتحضر على وقع المخاوف الأردنية والنصائح السعودية، كذلك جيش الإسلام المرابط على حدود دمشق.

هذه الخريطة التي جرى التوافق عليها، ولو ضمناً، فسوف تجر البلاد إلى حرب العشر سنوات، تدور بين دويلات مذهبية متناحرة، متنازعة حتى داخل حدودها الهشة، وتلفظ المزيد من النازحين والمهجرين، حتى أن أوربا التي ترفض دخولهم إلى بلدانها، بدأت تستعد للتمزق السوري، بالعمل على تقاسم الناجين من الغرق، وإفساح حيز لهم، كنوع من الشعور بالذنب، وتعويضاً عن الانحطاط الأخلاقي عن عدم مساهمتهم بالمأساة السورية، إلا بتعقيدها والتنكر لها.

وتبدو الصورة أكثر تشاؤماً، مع توالي اجتماعات المعارضة في القاهرة وقريبا في الرياض وقبلها عشرات الاجتماعات في تركيا وموسكو وبلدان أصدقاء سورية الأوربيين. ما زالوا على خلافاتهم التي تبلورت منذ السنة الأولى للثورة، وتعمقت مع مضي السنين. لم يفكروا حتى الآن أن التأخر في الاتفاق على الحد الأدنى، كارثة تتجدد. يدفع السوريون الثمن مضاعفا لحرية باتت عبودية لنظام لا يتورع عن قتلهم، ومعارضين لامباليين يشترطون الحصص في الخريطة الجديدة. وجاء حديث الجولاني قائد جبهة النصرة، ليحبط السوريين، مكرساً الطائفية والطوائف، باستعادة العلويين والدروز إلى الإسلام، ودفع الجزية للمسيحيين.

سورية على عتبة التقسيم، تحتاج إلى معجزة لتتوحد. المعجزة ليست عسكرية ولا سياسية؛ المعجزة وطنية، ما يجعلها مستحيلة، أن الوطن لم يعد يرى إلا مجزءاً.