يمثل العقل الغربي، وريث الحضارات السابقة، عقل العالم الواعي فكرياً وسياسياً وأخلاقياً. غير أننا مؤقتاً سنقتصر على الجانب السياسي منه، بحكم تأثيره في شعوب كوكبنا، بما أن أدواته الفعالة دولياً تتمثل بحكومات العالم الغربي في أمريكا وأوربا.
تمييز العقل الغربي على هذا النحوجائز، بالمقارنة مع فقدان بعض ما تبقى من العالم رشده، وهو الراجح للأسف. نلمسه من شعوب سيبت عقلها، وأخذت بالتقاتل مع بعضها بعضاً لأسباب تبدو في منتهى الصواب، وتستدرج في الوقت نفسه أعمالاً في منتهى الوحشية، تكتسب في حينها إطلاقية تدفع الناس الى القتال حتى الموت دفاعاً عما يمكن اعتباره بعد حين، أموراً في منتهى الحماقة، لا تستحق الخلاف حولها، ولا يجوز تحت أي مبرر سياسي أو ديني التضحية بالنفس لمجرد أن هناك مهووسيين بالسلطة يحثونهم على الموت.

في العقود الأخيرة، كلما حدثت في العالم ثورة، أو انقلاب، أو تحول… يتطوع العقل الغربي من خلال حكوماته بتقييم الحدث والتعليق عليه، سواء بالإشادة به والتشجيع عليه، أو التنديد به وإدانته، وربما يصل بهم الأمر حد التدخل السافر، وغير السافر. ولا تُستثنى حكومات بلداننا التي تنوي تغييراً على الصعيد الداخلي أن تتطلع بأنظارها إلى الغرب لتحصل على دعم معنوي، أشبه بصك براءة أو شهادة تقدير، يبيح لها الاستقواء على الداخل بالخارج.

بارك الغرب الثورات العربية، ورافق اندفاعاتها واضطراباتها وفوضاها ورغبتها العارمة في التحرر، وأدلى برأيه في اختياراتها، حتى بدا لشعوبنا بعد عقود من الخلافات والاختلافات مع الغرب الذي ضاق ذرعاً بالعرب والإسلام وكال لهما الاتهامات، أن العقل الغربي، يعمل لصالح الشعوب لا الحكام، بعد تحيزه لهم، بسكوته عليهم ودعمه لهم.

غير أن هذا العقل من فرط عقلانيته، وقف حائراً أمام المعضلة السورية، مع أنه أيد الثورة، وأزجى الوعود لها، ولم يوفر انتقاداً للنظام، بلغ أحياناً حدود الشتائم والاتهامات بارتكاب المجازر، ثم بالابادة البشرية، بعدما ضبطه يستعمل الأسلحة المحرمة دولياً… ولم تكن مطالب السوريين الفعلية أكثر من وقف القتل. غير أنه تنكّر لوعوده أكثر من مرة، وظهر متردّداً، شكاكاً ومتقلباً، يصطنع الحجج للتنصل مما التزم به!

هذه الريبة، وهي من فضائل العقل اللماح، خصنا وحدنا بها، هذا إذا أحسنا الظن به، لكن تفاقمها، بلغ حد الوساوس المرضية حول مشاركة الإرهابيين الإسلاميين في الثورة والهيمنة عليها، ما شجع فعلاً هجرتهم إلى سوريا، حتى أنه من كثرة ما أعلن عنها ورددها وروج لها، تحولت إلى حقائق تسعى على الأرض.

الغرب العقلاني ناقش الأزمة السورية من ناحية ما تشكله من تأثير في مصالحه ومصالح أصدقائه في المنطقة، لا من ناحية البشر الذين يقتلون، ولا من ناحية الحريات والعسف والطغيان، فلم يأخذ بدعاوى الثورة، ومنح النظام أكثر من مهلة لينهي مأزقه ولو كان على أسوأ وجه. ما جعله مشاركاً بقتل آلاف السوريين. وكأن العقل لا يكون عقلاً، إلا إذا كان بارداً وخالياً من المشاعر الإنسانية.

بعضهم يدعو تصرفاته بالمؤامرة، أو الاستكلاب على نفعية باتت مقززة … تتم على حساب الضحايا، حتى أن أصحاب الضمير الذين اعتقدوا بصوابية العقل الغربي أصيبوا بالإحباط وخيبة الأمل وفقدوا ثقتهم به، ودعوا إلى نزع صفة العقل عنه، وكأن العقل رديف للرحمة، وفي هذا افتئات عليه، فالعقل الغربي، بحكم اتساع مداركه لا يدع فرصة إلا ويستغلها في عالمنا البائس المفتوح على مغامراته، ولو أدت إلى إزهاق أرواح البشر، حجته أن هؤلاء لا بشر ولا أرواح.

في ما سبق تقييم لا بد منه، إذ لا يستقيم العقل بالسياسة وحدها، وفي مأساة الكيميائي مؤخراً دليل. إن وضع الكيميائي على المحك السياسي فقط، تذهب بحرمته وتحريمه، الاستراتيجيات الكبرى ومساومات الكواليس. لو أنها ترافقت بالمحك الأخلاقي، لكان القتل الذي امتد طوال عامين ونصف العام، بجميع أنواع الأسلحة، وفاق الكيميائي فتكاً، شكل وازعاً إنسانياً لهذا العقل البارد الموسوس بالريبة، هذا إذا شئنا رد تعثره إلى عوامل نفسية، غير أن العقل السياسي لا يتأثر بخرافات علم النفس، فالغرب عندما يعمل لا يكون موسوساً إلا بمصالحه، وهو الأدرى بتصرفاته التي يحكمها التجاهل لا الجهل.

مهما حاولنا تمزيق عالمنا، فهو عالم واحد. إن مساعدة سوريا على اجتياز محنتها، التي تبدو بلا مراء فريسة للكبار، يمنح معنى ملموساً للتكافل الانساني في عالم، ربما يخلو من العقل، لكن قدراً من الإنسانية، ضرورة أخلاقية لا تعوضها السياسات المحنكة، إن لم تقتلها.