يبدو المشهد الثقافي بخير، يتميز بالوفرة، وفرة الكتابات والترجمات، وأيضاً وفرة المال، فالجوائز ضخّت بعضاً منه. صحيح أنه لا يشمل الكثيرين، لكنّ شيئا أفضل من لا شيء، وإن كانت حداثة العهد بالجوائز تثير اللغط أكثر من الامتنان، وهو ما اعتدنا عليه في صفحاتنا الثقافية. كذلك العائد من الترجمة، بات ملموساً. أما الرواية والشعر فما زال حالهما على حاله، فالقسم الأعظم يموّله الكتّاب أنفسهم، فيدفعون لقاء النشر. في التعليق على هذا اللغط السنوي، يمكن القول إن قراءنا يرتابون من الصناعة الأدبية المحلية، بينما يقبلون على الأدب المترجم، وللأسف، لا تخفي الجوائز تكريس العلاقات الشخصية والعامة والمجاملات والتحصن بالأسماء المعروفة، أكثر من الاهتمام بالأدب.

من جانب آخر، أضاف الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي صرعة ليس الأدب بحاجة إليها، وإن بدت غير ضارة لإسهامها في ترويج الكتّاب، لكن هذه الإضافة المثيرة، تهدد بأن يعتمدها الكاتب طموحاً لا غنى عنه، فيعتقد أن الإعلام يسلّط الأضواء عليه، ووحده يمنحه مكانة وأهمية.

” رغم الوفرة الظاهرية، المشهد الثقافي ليس بخير”

من قبل كان الإلحاح على تحرير الكاتب من الركض وراء لقمة العيش، وما زال. أما اليوم فالمطلوب أيضاً التحرّر من اللهاث وراء الإعلام، طلباً للشهرة، ولو كانت زائفة.

الفرصة التي سنحت لإحداث انقلاب في المشهد الثقافي، كان في الربيع الذي اخترق المنطقة، وشهد قمعاً أكد سمات الدولة الشمولية المتوحشة. بعث الأمل في أن يصبح المثقفون على سوية مشهد بشر بتحوّلات جذرية، كان مقبلاً على فتح آفاق جديدة، لكنهم تخندقوا في فريقين، وكان من المفترض أن يوحدهما الربيع، ما أكد الوعي المتخلّف عند الكثيرين منهم، وأشار إلى تجربة خلاصتها أن المثقفين جزء لا يستهان به من مصيبة هذه الأمة؛ إذ ثقافة لا تنحاز إلى العدالة، معطوبة في العمق.

وهكذا رغم الوفرة الظاهرية، المشهد الثقافي ليس بخير، الأصح القول إنه يتخبط متراجعاً نحو الخلف، أبرز ما يميز أزمته المستفحلة غياب الحراك النقدي العقلاني، ففي تجاهل التمييز بين الإرهاب والحرية، ودمغ المناضلين ضد الدكتاتورية بالخيانة؛ تمييع لا تسوّغه الاحتفالات الثقافية من مهرجانات ولقاءات وخطابات بلا مضمون حقيقي، يُعنى بالواقع ويجاريه ولا يقصر عنه، إن لم يسبقه، وهو لا يتحقق من دون رؤية شاملة وعميقة لا تتوقف عند سطحه المخادع. هذا لئلا يضيع هباء هذا الدفق من المؤلفات والترجمات، وكي لا تشكل أكوام الكتب تكديس أوراق بلا مردود.

هل نحن مؤهلون لاستيعاب ما نقرأ؟ إذ ما نقرأه سيترجم على أرض الواقع. ما يأخذنا إلى السؤال الرئيس، لماذا الثقافة؟ ما ضرورتها؟ هل نحن في حاجة إليها؟ في الإجابة على هذه التساؤلات، إحياء لمعنى الثقافة، تلك التي لا ينفصل عنها الإحساس بالمسؤولية، ولا يغيب عنها الضمير، ففي توافرهما إيمان بسطوتها وقدرتها على التغيير.