تعتبرالروية من أكثر الأجناس الأدبية، غير القابلة للتعليب ضمن اشتراطات وقيود، وإن كان من الملزم وضع قواعد عامة لها، إذ لا وجود لفنٍ، أو أدبٍ، من دون قواعد ناظمة، فهي ليست قيوداً، بقدر ما هي معالم تميزه عن غيره، وإلا اشتبه الشعر بالنثر، والمقالة بالقصة، والرواية بالسيرة الذاتية، وخصوصاً أن هناك دعوى رائجة لتمييع الحدود بين الأجناس.
في الوقت نفسه، يمكن القول، ما وضعت القواعد في الفنون كافة إلا لتخرق. لذلك، غالباً ما يتكئ النقد على القواعد تارة، وما يخلخلها تارة أخرى، لكن، ليس بلا مسوغات قوية. غني عن البيان أن الرواية لم تتقدم وتتطور، إلا بواسطة هذه الاختراقات، وإلا اعتمدت، منذ ظهرت حتى الآن، شكلاً موحداً لها، كالجيش العسكري الموحد اللباس، كلما كان منضبطاً وأكثر تقيداً بالأوامر والتعليمات، كان أداؤه أفضل. وبالمقارنة مع الأدب، لن يكون الإبداع بهذا المنطق، سوى تجويد فن ميت.
الفن الروائي، في سيرورته وانتقالاته، يتجدد كالحياة، كلما فتح آفاقاً جديدة. ولهذا، شكلت روايات سرفانتيس وديستوفسكي ومارسيل بروست وجيمس جويس وماركيز، وغيرهم، فتوحات في الفن الروائي. مشكلة هذه الروايات ـ العلامات أنها تغري بالكتابة على منوالها، فأمدتنا بروايات باهتة، تتذرع بها، ما دام أنها تقلدها، من دون أن تشق طريقاً لها بموازاتها أو داخلها، وتجترح ما يثريها. ليس من السهل مجاراة أعمالٍ عظيمةٍ بعدة متواضعة. مجاراتها تحصل باستيعاب تجربة هائلة العمق والاتساع، لا تتفرد عن الأصل، إلا عندما تظفر بخصوصيتها.
المجد في الرواية ليس معياره الروايات الأكثر مبيعاً، ولا جمهور القراء العريض، أو ما تدره من مال وشهرة. الأدب لا يمنحها تفوقاً ولا تميزاً، سوى أن الكتابة عمل ناجح، أتقنه صاحبه، له علاقة ما بالأدب، علاقة عابرة، غير كاملة ولا متكاملة. الأكثر مبيعاً يعتمد، غالباً، على موضوعات رائجة؛ الجنس والجريمة والرومانسيات المبسطة. فالجنس والجريمة يشهدان إقبالاً دائماً، من دون التبصر بسويتهما الأدبية، وهي موضوعات صعبة ومعقدة، والأدب مدين بالغوص فيها إلى قدرات الكاتب، واتساع معرفته الإنسانية، وعمق تجاربه الشخصية، تتجلى مثلاً في رواية ديستوفسكي “الجريمة والعقاب”، وكتابات هنري ميللر عن الجنس. أما الرومانسية المبسطة، فما زال لها حظوظ وافرة في جذب المراهقين وربات البيوت، وإذا كانت الرومانسية أبدعت في “آلام فرتر” للألماني جوته واحدة من أعظم الروايات، في القرن الثامن عشر، لكنها في هذا العصر، ابتليت بروايات ضحلة غارقة في سيل من العواطف الاستهلاكية. وكأننا في عصر الاضداد، جنس منحط، وجريمة منفلتة، ورومانسية ساذجة.
لرأب الصدع بين الاتجاهين، تعمل الجوائز على مستوى أدبي مختلف، فهي متطلبة، لا تراعي القراء كثيراً، بغية رفع ذائقتهم الأدبية. وإذا كانت “البوكر” البريطانية، منذ سنوات، بدأت تراعي أذواقهم، بوضع قراء متمرسين في لجنة التحكيم، فهذا بعد سنوات طويلة من عمر الجائزة، وتحت ضغوط دور النشر، يعني أنها بحاجة إلى قراء، ومبيعات أكثر، لا أدباء ومبيعات أقل. كما أن الدور أصبحت تراعي عامل التوازن بين طبيعة الأدب من طرف، فلا تهمله، على الرغم من محدودية انتشاره، وتنشر، أيضاً، روايات المغامرة والجنس، وما تشكله من دخول كبيرة، وفي روايات هاري بوتر دليل ممتاز على النجاح، لا أنموذج على روعة الفن الروائي. فأصبحت للأكثر مبيعاً فائدة تجارية في حمل العبء المادي للأقل مبيعاً.
لا يمكن إنكار أن الجوائز تؤثر إيجابياً في حركة القراءة والنشر، تنعكس على رقم المبيعات، وازدياد القراء. لكن، قد تكون النتيجة سلبية، في حال اعتقد القارئ أن الروايات الفائزة هي الجديرة بالقراءة، بينما المستبعدة لا تستحقها، وهو الملاحظ في المعارض العربية، فالقراء يحصرون مشترياتهم بالروايات الفائزة، وإذا تساءلنا عن أسباب استبعاد بعض الروايات المتميزة، فقد نعزوه إلى الأقدار والحظوظ. هذا لكي نبدو حسني النية، لكن سوء النية لا بد منه، يُخشى أن يعمل التساهل في منح الجوائز على تربية ذائقة سطحية، تتطلب أنواعاً محددة من الرواية، فنكسب جيلاً من القراء، ونخسر الفن الروائي، مثلما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق، لم يجدوا روائياً سوفياتيا يفخرون به، فتباهوا بملايين القراء. وهي مسألة، على الرغم من كل شيء، فيها نظر.