تشبع الكراهية حاجة ضرورية لدى البشر، إذ تلاقي اقبالاً من مختلف أنواع البشر من دون تمييز بين طبقات المجتمع وشرائحه. يحلو للبعض تفسيرها على أنها غريزة همجية لم تستطع الحضارة استئناسها، ولا التعويض عنها بالفن وأفلام الرعب. ففي الكراهية، تنفيس أحقاد سوداء وسلوكيات متطرفة. وبالنسبة للمثقفين والمترفين هي ترويح عن النفس من الملل والحسد، وكلها تلتبس بدعاوى حدية ومتصلبة، ما يحيلها إلى أمراض ألصق بعلم النفس منها بالتعصب. ذلك أسلم من تفسير الكراهية بأنها غريزة تشارك البشرية بواسطتها في تصنيع الموت وترشيده، والتحريض الهادف على النفي والإلغاء والقتل، طبقاً لأجندات سياسية بعضها معروف، وبعضها الآخر تشمله السرّية. عموماً لا جدوى من توخي الأسلم، طالما لا يمكن استبعاده، سوى العمل على إبقاء أخطاره في حدودها الدنيا.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، الكراهية بوجهها الإيديولوجي لا تتميز عن الإيديولوجيات المغلقة، المتزمتة والمطلقة، التي أزهقت نماذجها النازية والفاشية والماوية والستالينية أرواح ملايين البشر. منذ أكثر من عقد، تلعب الأديان، التي سبق لها اجتهادات في التأدلج، من خلال سوابق تعود بها إلى عصور الاضطهاد الديني المنهجي، في تعريض أفراد وجماعات إلى التعذيب وسوء المعامله بسبب انتمائهم الديني. ومن جانب آخر تستغلها سياسات الاستبداد، بالتحكم بالايمان الأعمى، توسلاً للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها.

للقارة الأوربية تاريخ طويل بالإسهام في الكراهية، بعض الحروب الدينية قاربت مئة عام. عدا محاكم التفتيش ومطاردة الساحرات، والتعذيب ونصب الحرائق والصلب وقطع الأعضاء، سلسلة لا تحصى من ابتكار السادية، أسهم فيها التعصب عن إيمان مطلق. وبالتعريج على التاريخ الإسلامي، وهو ليس بالأخف وطأة، قتلت النزاعات السياسية تحت غطاء من المذاهب المتصارعة، أعداداً من المسلمين بدعوى الخروج عن الملة، والشطح في محبة الله، أكثر من الذين ماتوا مجاهدين في سبيل الله.

قام الغرب بتحييد الأديان، خشية استعادة تاريخه المشين. تصاب أوروبا بالرعب لدى إشهار الرموز المتسامحة للإيمان، ولو كانت من النوع القويم، إذ تحت راياته سفكت دماء الملايين وشنت حملات زرعت الدمار في أرجاء العالم. لم تترسخ الفوبيا الدينية في عقول الفرنسيبين إلا من جراء تاريخ مروع، إن أثبت شيئاً، فهمجية تاريخ فرنسا بلاد النور.

انتشار خطاب الكراهية، أسرع من انتشار خطاب المحبة، مع أن الأديان تحضّ على الخير. لماذا تستميل البشر نداءات الحرب أكثرمن نداءات السلام؟ مهما بلغت الشعوب من حضارة ووعي، فالتشدّد الديني كفيل بالقضاء على الحضارة والوعي معاً، بل وإخراج الدين عن الصراط المستقيم. ليس هناك شعب محصن من انزلاق الإيمان العصابي إلى طلب الموت لكل من يخالفه.

شاءت الصراعات السياسية في بلادنا والعالم أن يصبح الإسلام مادة دسمة للإرهاب، ومادة أدسم للقضاء على النزوع للمقاومة والتحرّر، باستغلال دين، هو ككل الأديان، حمّال أوجه، يساء تفسيره، وقابل مهما ابتعد عن التاريخ، لاستعارة صراع سياسي، يوجه أطرافه الدين إلى حسمه بالتكفير. لو كنّا مؤمنين فعلاً، لنجونا من كوارثه، أو لو كان الذين يعتقدون بحاكمية الله لا الديمقراطية لا يجهلون الدّين الذين يقتلون باسمه.

تسييد خطاب كراهية الآخر، لا يعني بضعة أفراد أو حزب أو جماعة، إنه توريط شعوب في أتون الكراهية، وجعلها وقوداً للحروب والتسلّط. في هذا العالم، انتُهكت قضايا الإسلام وسفهت، بإحالتها إلى مواد ارهابية، على أمل إخراج المسلمين من التاريخ، وإرسالهم إلى غيبوبة الماضي. إشاعة ثقافة الكراهية، هي إقامة خطوط تماس خطرة بين مكونات الشعب الواحد، وتبادل إطلاق النار بين المذاهب والطوائف، والفتاوى بالتكفير والتكفير المضاد. التكفير حق الله وحده، لا حق ملتحيين مدججين بالجهل والأسلحة. ليس هذا دفاعاً عن مذاهب مغالية ولا ثقافات توصف بأنها مارقة، بل عن البشر وحريتهم في التفكير والاختيار، وعدم فرض أية عقيدة عليهم، إن الدخول في قلب إنسان، أشبه بشق صدره والبحث عما كتب فيه.