يُعدّ التاريخ أبا العلوم الإنسانية؛ لأنه إلى جانب الإرادة يؤطران بنية الحالة الحاضرة ورؤية المستقبل، وهو يشتمل ويتداخل مع كل فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية، وبخاصة الاجتماع والسياسة والأدب، ولذا يمثل العدد الرابع عشر من (مجلة العربي القديم)، الذي حمل عنوان “الأسر السياسية في التاريخ السوري” مكوناً من التاريخ السوري الممزوج بنكهات جريئة بدعية في أوساطها، وثقافية نقدية صرفة – بخيرها وشرها- كانت طيّ التغييب المتعمد لعقود، أبرزها عقود البعث الحاكم في سورية، ففي ظل الصحافة الصفراء التي استولت على وجدان السوريين، وقهرتهم بالأكاذيب منذ السبعينيات من القرن الماضي، وعدم نضوج محددات أخلاقية للصحافة المعارضة بعد ثورة آذار منذ ٢٠١١، صار لنا أن نقول: إن مشروع العربي القديم إضافة نوعية للصحافة السورية، نرجو للقائمين عليها الرشاد والتسديد، فقلما نجد اليوم مجلة ذات ثقل فكري وحضاري، تُعنى بدقائق التاريخ، وتوظّفه لتمرير الوعي المغيّب، والقراءة المؤسسة للجيل الذي بدأ يفقد هويته الحضارية شيئاً فشيئاً، كما تفعل العربي القديم بعناوينها الثرية كتبة وكتاباً.
ثوابت لفهم التاريخ السياسي السوري
عانت الدولة العثمانية في عقودها الأخيرة، على الرغم من سلطانها من هجمة تبشيرية، اكتست ثوب الاستشراق وتصدير المبادئ السياسية إلى مناطق الهشاشة الحضارية في الشرق الأوسط، وكانت أوروبا بتيار الحلفاء خاصة إنكلترا وفرنسا رأس حربة الاستعمار الجديد، الذي سيخيم على المنطقة لأكثر من قرن، تحت مسميات الوصاية والانتداب، والتكامل الاقتصادي والحرب على الإرهاب، وحماية الأقليات، والديمقراطية، واليسار العالمي وتحرير المرأة.
وإن كان اليسار العالمي بفروعه القومية والاشتراكية والشيوعية والديمقراطية، ترعرع في الشرق من أوروبا، إلا أنه شب وانتفض وتسلل في غربها، وعلى الخصوص في فرنسا الدولة الكاثوليكية المتطرفة ذات النزعة الصليبية الحادة التي هي ذاتها لا تخفي نزعتها مطلقاً.
هذا الوهم الذي أصبح من التاريخ تمدد إلى مستعمراتها في المشرق الإسلامي وبخاصة سورية ولبنان، مع أن فضاء الدعوات السياسية كان محدوداً في لبنان لهواجس الفرنسيين في تسليط الموارنة، وضمان امتيازاتهم البالغة على المدى البعيد، بينما في سورية تُرك الأمر على مصراعيه، حتى تورمت قريحة المكونات الأقلوية، وانحرافات المكون الأكثري، لتبدأ ظاهرة التغلب السياسي بين علمانيي المجتمع بشقيهم القومي والشيوعي، وتُترك المؤسسة العسكرية ذات المنشأ الأقلوي، لتكون حكماً بين الأفرقاء السياسيين، وبالتالي إطلاق سلطانها ويدها على المجتمع، من خلال ما بُدئ به من انقلابات عسكرية، تمثل فوضى محمومة على سلطة تحت رعاية ثقافية استعمارية، فهذه الدولة من ذاك المستعمر المتطرف الذي حارب عروبة مجتمعها وطابع العروبة الأصيلة القبلية في زعاماتها؛ فلذا تقدمت دول الخليج العربي بخلاف دول المنطقة الشامية على نحو أفضل من نحونا، لقيام نماذج حكم فيها مؤسسة على قواعد الهوية الوطنية لمجتمعاتها، لا على أسس معلبة ومستوردة لأولويات الهوية الوطنية.
غربان التغريب والماضي، حمَلة المسؤولية عن الحاضر
إن سياسة البعث الحاكم في تغييب هذه الذاكرة التي يقدمها العربي القديم للعربي المكلوم منذ دهر، ليست خطاب تزكية لأركان هذه الذاكرة وأعمدتها من سياسيين ورموز، ولكنها سياسة الإقصاء الشمولية المتعنتة التي ترى حظ نفسها، ومن بعدها الطوفان الذي لم يترك باب بيت في سورية والمنطقة ولم يطرقه، وإذ يؤدي الحنين إلى الماضي لبشاعة الحاضر دوره في تكريس أفكار النخب -بحلوها ومرها- السالفة، صار لزاماً القول: إن تاريخ سورية السياسي المعاصر هو تاريخ صنعه رموز وشخصيات ذات بعد أقلوي مسكون بهواجس الأقلية، ومدفوع بثقافة تقدمية مستوردة، ومعلبة شعارها التقدم، ورفض الرجعية (الأصالة)، لكن التقدم إلى أين؟ لا أحد يعرف! ويُلحق بشكل عام بهذه الرموز من ارتضى من أطياف المجتمع السياسي السوري التقدم نحو المجهول، فعمليات الحفر تحت أعمدة الهوية الوطنية الطبيعية، جعل مؤسسة السياسة السورية هشة أمام تعاظم الغلو السياسي اليساري وانتفاخه، ومكّن من اختراق مؤسسة الدفاع والجيش التي ستتولى قصم ظهر البعير لعقود في سورية بالقهر والاستبداد والشمولية العنيفة، لتحث الخطا نحو دمار المنطقة الشامل، وتفكك الثقة الأهلية بأهمية التطور والعمل السياسي في تخليص ما يمكن تخليصه من سورية المستقبل، لتنشأ مع هذه فكرة الصدام والاستباقية الخشنة المتبادلة والحلول الأمنية الداخلية.
مفارقات في ظاهرة العائلات السياسية وأملاكها
كان مما شدّ انتباهي عميقاً مقال الدكتور البرقاوي (الظاهرة البكداشية)، ففي الإصلاح العميق الذي سماه البرقاوي ظاهرة، نستطيع أن ننطلق من هذا الاصطلاح إلى القول: إن السياسة العربية منذ فجر التاريخ سياسة العائلات، وإن قيّدها الإسلام كثيراً ونقض محتواها، إلا أنها نشطت بعد العهد النبوي والراشدي، وتفجرت على شكل مسميات عائلية كالدولة الأموية والعباسية، ثم عائلات الإقطاع والحكم المعاصر؛ لذا يصعب الحديث عن عائلات سياسية إسلامية في سورية، تحت ظلال الحركة الإسلامية المعاصرة، ولئن غُيب دور الحركة الإسلامية السورية عن هذا العدد الثري الذي نشرته العربي القديم؛ فلأن منقبة هذه الحركة الإسلامية السورية في إقصاء ظاهرة الجور السياسي المسماة (أسر سياسية)، تحتاج إلى عدد خاص، يتطرق إلى نشاطها ونضالها الطويل، خاصة مع إنصاف البرقاوي، بقوله: إن الحركة الدينية موازية للحركة الشيوعية بشكل عام، بل أقول إن الحالة الثورية الدينية أثبت وأجدى من اليسارية الشيوعية التي عززت مكاسب الحكام على مكاسب الشعوب، من خلال قوانين التأميم الاشتراكية المختلفة، هذه القوانين التي عزا إليها الأستاذ محمد منصور في افتتاحية العدد، كما كثير من الباحثين أسباب استفحال داء الاستبداد، ووحدة السياسة السورية لا تشاركيتها، وما ترتب عليها من طامات كبرى في التاريخ السياسي السوري اللاحق. ولكن سؤال العربي المكلوم: كيف استطاعت العائلات السياسية التفرد دون غيرها بهذه الأملاك الهائلة، لتوظفها في مشاريعها السياسية؟ من الذي أورثها هذا المجد الجغرافي والمالي الكبير؟ وكيف أدارته بما يخدم مصالح عامة الشعب والدولة العليا؟
إنه وإن كان الحيف والجور سمة في قانون الإصلاح الزراعي ومُشرّعيه غير الشرعيين، إلا أنه حرم السوريين من العيش في ظلال نموذج الحكم والإدارة السائد في لبنان، ونقلهم من حكم العائلات إلى حكم العائلة، ومن كثرة اللصوص إلى فردانية اللص، ومن عدل الأكل الحرام على موائد السياسيين، إلى ظلم الحكام الطارئين اللئام الذين يَطعمون ولا يُطعمون!
الأسر السياسية، وأول ميليشيا مسلحة شيوعية في سورية
تولى الفريق اللبناني المولود في مدينة صيدا جنوب لبنان عفيف البزري رئاسة أركان الجيش السوري عام ١٩٥٧، وكانت بدايته ضابطاً في جيش الشرق الذي أسسته فرنسا بأغلبية من أبناء الأقليات، مع أن المفارقة أن جدّه لأمه الشيخ يوسف الأسير الذي نال حظاً وافراً من السمعة المعادية للاحتلال الفرنسي واحد من رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر، فهو بذلك عاصر وكان مقرباً من الرؤساء السوريين منذ عهد الرئيس القوتلي وحتى عهد حافظ أسد.
فعلاقته بالرئيس حسني الزعيم، واستشفاع الرئيس القوتلي عنده بوصفه رئيساً لمحكمة محاكمة أركان ما سمّي بالمؤامرة العراقية (أديب الشيشكلي، وميخائيل إليان، وعدنان الأتاسي ابن الرئيس هاشم الأتاسي، ومنير العجلاني)، إضافة لتزكيته من قبل مدير المخابرات آنذاك عبد الحميد السراج، أحيت في نفس البزري ذاك الشيوعي الخفي، المتطرف لشيوعيته، ولعبد الناصر معاً، المتمرد على رؤسائه، الطامع الذي نال ترقيات استثنائية، عبر شيوعيي حزبه والجيش السوري، ليصير رئيس أركان الجيش السوري، قبل أن يقضي عليه عبد الناصر بعد الوحدة بقرار تسريحه.
لكن هذا لا يكفي لإنهاء مسيرة الرجل؛ لأنه كان قد أسّس في ١٩٥٦ ميليشيا “المقاومة الشعبية” المسلحة، بدعم خفي من الحزب الشيوعي، وتسليح ورضا الجيش السوري، ووزير دفاعه خالد العظم، ومن خلفه الرئيس عبد الناصر، ليكون الشيوعيون والاشتراكيون رعاة الدولة والميليشيات معاً، وتُوكل قيادة الميليشيا لأخيه صلاح البزري، تحت ستار الاستعداد لمقاومة أي هجوم عسكري تركي على سورية نتيجة التصعيد بين البلدين.
عصام العطار ورأي الإخوان بالميليشيا الشيوعية
يقول فضيلة الأستاذ عصام العطار رحمه الله عن هذه الميليشيا اليسارية في حوار تلفزيوني لبرنامج مراجعات على قناة الحوار: إنها أنشئت لسبب رئيس واحد، وهو استغلال أي اضطراب سياسي، قد ينشأ بين تركيا وسورية لضرب الحركة الإسلامية في سورية، وتقتيل الإخوان المسلمين السوريين، والحد من نفوذهم ومنافستهم على الساحة السورية، وذلك بتعميد من قيادة الحزب الشيوعي السوري ومؤسسة الجيش ودعم بريطاني أمريكي، ومن خلفهم إسرائيل، وفق ترجيح الأستاذ العطار، ورضا عبد الناصر والاشتراكيين الذين كانوا يخوضون معركة استئصال ضد الحركة الإسلامية والجماعة في مصر. هذه المسيرة المتمردة لعفيف البزري كانت محل أنظار كل الساسة والعسكريين المتمردين الذين استثمروا في شخصية البزري قبل أن يكفوا يدها، ففي ١٩٦٧، وأثناء حرب حزيران عُيّن البزري رئيساً للجنة الدفاع الوطني في سورية بأمر من وزير الدفاع حافظ أسد، الذي سيكمل مسيرة العائلات السياسية بشقيها الشيوعي والاشتراكي، ولكن بفارق أكل الحلفاء قبل الخصوم، ففي زاوية “من قرن لقرن” التي تضمنت مقالاً لجريدة النهار عام ١٩٧٢، نقلاً عن رئيس حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الدكتور جمال الأتاسي الذي يزكي قيام الجبهة الوطنية التقدمية برئاسة البعث، ويعدّها أهم حدث سياسي في سورية، ويدافع عن فكرتها في تحريم نشاط الأحزاب السياسية في قطاعَي المؤسسة العسكرية والطلبة، ما كان إلا ترسيخاً لجهود تمكين حافظ أسد من السلطة، وذلك بدحر الشيوعيين حلفاء الأمس، ومحاصرة النفوذ المتصاعد لخصومهما في جماعة الإخوان المسلمين خاصة والحركة الإسلامية عامة في قطاعات مختلفة.
شكر وتقدير
إن خيوط النور المنبعثة من ثنايا (العربي القديم) بعددها الخاص الرابع عشر “الأسر السياسية في التاريخ السوري”، التي بعثها العربي القديم بصحبة كتّاب العدد المحترمين، كفيلة بتحطيم حواجز التاريخ التي صنعها الاستبداد، وحرسها الجهل، وشرّعتها الأقلام المأجورة عبر الزمن، إذا جعلت (العربي القديم) من التاريخ والحاضر السوري مادة هينة لينة متاحة للجميع، ولكل الأعمار والأذواق، لإعادة تحفيز الفرد السوري الحضاري، نحو خلاصه السياسي بحيوية خلاقة، فقد قدمت تجربة فريدة في هذا العدد كانت طيّ الكتمان، وفي أدراج النسيان المتعمد، لتصل في الختام إلى وضع لبنة ثقافية في قلوب كل الشغوفين بمعرفة التاريخ السياسي السوري والعربي، نحو صحافة نفتقدها جميعاً، ترسم حدود المستقبل، صحافة تحترم وعي العربي ونباهته، وتقدر طموحاته، وتأخذ بيده نحو الكرامة الإنسانية المفقودة، بصدق القلم، وموضوعية الطرح، واستقلالية المؤسسة، فأجمل التاريخ ما سيكون غداً.
-
المصدر :
- العربي القديم