سجَّل العالَم، بعد الحرب العالمية الثانية إلى نهاية القرن الماضي، تحرُّرَ أكثر من ثمانين دولة مُستعمَرة من الاحتلال الأوروبي، كشَف عن أنَّ بعض هذه الدول يعود احتلالُها إلى عشرات السنين، وبعضها الآخر إلى خمسة قرون.

في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، قد يُقال لا يُوجد استعمار في العالَم. وبما أنَّ فلسطين في هذا العالَم، يُزعَم بأنَّها غير مُحتلّة، بعدما تغيّر اسمُها إلى “إسرائيل”، والعمل الدؤوب ينحو إلى طَرْد الفلسطينيّين، أهل البلاد الأصليّين، منها، وهي عملية مستمرّة لم تتوقّف منذ ثلاثة أرباع القرن، الحلقة التي ليست الأخيرة، نشهدها حاليّاً في الحرب على غزّة، وفي الأفق الضفّة الغربية.

يجرى تنفيذ الفكرة الصهيونية، مع موافقة ضمنيّة غربية، مُشبَعة بالتطمينات؛ افعلوها ولن نُعارض، وربّما مع بعض الانتقادات من أجل العالَم الذي يرى ويسمع. والسبب ليس هُناك حلٌّ للقضيّة اليهودية غيره، ولو كان في خَلْق قضيّة فلسطينية، لذلك كان السعي لطمسها وإنكارها.

“افعلوها ولن نُعارض” لسان حال الغرب مع “إسرائيل”

الكيان الإسرائيلي مشروعٌ غربيٌّ بالدرجة الأُولى، أُنجز بنجاح حتّى الآن، وإن ببُطء وليس بالسرعة التي استطاع الاستعمار من قبل اجتياح قارّات. يُشاع عن أنَّ عصر الاستعمار ذهب إلى غير رجعة. بينما تُثبت الحرب الحاليّة، كما أثبتت الحروب السابقة بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية، أنَّ الغرب الاستعماري لا يقبل بانهيار مشروعه، ولا هزيمته أو وضع حدّ له، ويحثّ “إسرائيل” على القضاء على أيّة مقاومة، والأصحّ إبادتها، ولو احتاج إلى إبادة السكّان.

تبرهن عليها استحالة مضيّ “إسرائيل” في حربها من دون التأييد الأوروبي الهيستيري، مع حماية أميركية مُطلقة، تكفل لـ”إسرائيل” الأمن، مع ضمانة كاملة في التفوّق العسكري والتكنولوجي.

في الصدد نفسه، عن قصّة الاستعمار الذي خرج من البلدان التي احتُلّت إبّان الغزو الأوروبي لبلدان آسيا وأفريقيا، هذه البلاد باتت حرّة، لكنّه خرج ولم يخرج، خرج الاستعمار القديم، وعاد الاستعمار الجديد ليُقدّم الخبرات والمساعدات والمنافع التي تصبُّ بالنهاية في مصالحه الخاصة. فالبُنى التحتية التي يستفيدُ منها الأهالي تلزمها سكك حديدية وكهرباء ومصانع، وهو أمرٌ صحيح، لكن كي يسهل استغلال طاقات هذه البلدان، كونها مصدراً للموادّ الرخيصة، وأسواقاً لمنتجات ترتدّ على تنمية الاقتصاد الغربي.

تُعيد الاحتجاجات الطلّابية فكرة العدالة إلى المركز

أمّا كيف تسلّل الاستعمار بوجهه القبيح، ففي لجوء الدُّول الغربية إلى تشجيع الحركات الانفصالية، إن لم يكن بتشجيع الأنظمة الديكتاتورية، فصناعتها. كان الغرب وراء أكثر انقلابات آسيا وأفريقيا، وما زال حتى الآن كلّ ديكتاتور يسعى لوضع نفسه ونظامه تحت حماية أوروبا وأميركا، ويجهد في تقديم الخدمات لهما. بالمقابل لا يقصّرون أبداً في دعمه ضدَّ شعبه، والتغاضي عن جرائمه.

منذ وقتٍ مُبكِّر، حاول الغرب تبرير الاستعمار على أساس نَشْر الحضارة والتبشير بين الوثنيّين، وابتدع فكرة “عبء الرجل الأبيض”، ذريعة تُبرّر التدخّل في نهضة الشعوب المُستعمَرة، والإشراف على شؤونها كعمل حضاري خيري. ففي أفريقيا مثلاً، لم تذهب سوى نسبة لا تكاد تُذكَر من الأطفال إلى المدرسة، ولم يكن هناك اهتمامٌ بفتح مدارس ثانوية، حتّى إنّ جمهوريّة الكونغو الديمقراطية، التي كانت تحت الاحتلال البلجيكي، لم يكُن لديها عندما تحرّرت عام 1960 سوى ثلاثين خرّيجاً جامعياً، في بلد من 15 مليون نسمة.

بينما كانت القارّة العجوز تُموِّل تعافيها من الخراب الذي حلَّ بها بعد الحرب العالمية الثانية بسواعد الفلّاحين وعمّال المناجم الآسيويّين والأفارقة، الذين عملوا على استخراج الذهب والقصدير والمنغنيز والكاكاو والمطّاط وغيرها، في ظلِّ أوضاع بائسة للعمّال لا تختلف عن العبودية.

هذا التاريخ الذي كان محلّ دراسة ترتفع اليوم أصواتٌ تطالب بإلغائه، في سلسلة من التعليقات وافتتاحيات الصحف الغربية، قُلّلت من أهمّيته، وانتقدت مقرّرات التعليم الجامعي التي تركّز على دراسات تصفية آثار الاستعمار، بأنّها كانت وراء انتفاضة الطّلاب، طوال الأشهر الماضية، وحملت الجامعات مسؤولية التظاهرات والاحتجاجات التي أدانت إرسال السلاح إلى “إسرائيل” وطالبت بوقف إطلاق النار.

انتقاد تدريس تصفية آثار الاستعمار كان لإنكار علاقتها بوجود الكيان الإسرائيلي، ولم تكن محاولات وأد التظاهرات بالقوّة، إلّا لأنّها أعادت إلى الواجهة التاريخ الاستعماري الشنيع للإبادة والاستغلال، وفضح العبء الشرير الذي أخذه على عاتقه الرجل الأبيض؛ قتَل ودمَّر واستعبد وخرَّب، واليوم أخذ على عاتقه بأسلحته وذخائره قَتْل الشعب الفلسطيني.

يُعيد الطلّاب فكرة العدالة إلى المركز، وغيابها عن القضيّة الفلسطينية، بجهود الغرب. ما يُؤكّد النظر في تقييم العبء الذي أخذه الرجل الأبيض على عاتقه، لم يكُن سوى تاريخ العنجهية الغربية والتفوُّق الكريه والنهب الذي استمرّ قروناً، كانت ظُلماً وظلاماً خَيَّما على آسيا وأفريقيا.